الخميس، 22 سبتمبر 2016

كيف تدخل الغابة (57) .. الجريف شرق وفتح الخرطوم (23)


بسم الله و الحمد لله

كيف تدخل الغابة (57)
الوطن الذي لا وجيع له
الارض المحتلة ... ضد الجريف (23)
(الجريف شرق .. وفتح الخرطوم  )

هاهي الأرض تغطت بالتعب ...
والبحار أتخذت شكل الفراغ ...
وأنا مقياس رسم للتواصل و الرحيل ...
أنا الآن الترقب ...
وإنتظار المستحيل ...
أنجبتني مريم الأخرى قطارا وحقيبة ...
ضيعتني مريم الأخرى قوافي ...
ثم أهدتني المنافي ...
هكذا خبروني ثم قالوا لي ترجل ...
ثم أنت يا كل المحاور ...
و الدوائر .. ويا حكايات الصبا ...
------------------------------------------


مقدمة المقال السابق (كيف تدخل الغابة 55 – التاريخ ينسي الجريف شرق 21):
---------------------------------------
السلام عليكم ورحمة الله تعالي وبركاته ، وكل عام وانتم بالف خير ، لقد قمت بنقل مقالين للدكتور / محمد المصطفى موسى  والأستاذ الصحفي / الصادق محمد سالم ، يتسنى لنا رؤية الجريف شرق وقدمها وأرثها ، وكيف أنها شاركت في حملة المهدي للخرطوم ولكن لم يتم ذكرها الا لماما ، مع انه كان لها الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في مد جيوش المهدي المحاصرة من جهة الغرب تحت أمرة الشيخ العباس ابن الشيخ عبيد ود بدر ، كان لها الفضل في تكفية هذا الجيش من كل مؤونة ، بالإضافة إلى الرجال الذين شاركوا في المعركة ، ولكن كتاب التاريخ أنسونا حظنا وحظ الجريف شرق من التاريخ ..
----------------------------------------

أعيد اليوم عليكم موضوع (فتح الخرطوم) بواسطة القائد السوداني (محمد احمد المهدي) رحمه الله ..  بعد رصد لبعض المقاطع في مقالي الدكتور (محمد المصطفى موسى) والأستاذ الصحفي (الصادق محمد سالم) .. حيث كنت قد أوردت المقالين في مدونة ( كيف تدخل الغابة - 55) (التاريخ ينسي الجريف شرق -21) .. وإليكم المقطعين الأساسيات للنقاش :
 
من (مقال : د. محمد المصطفي موسي)
بعنوان (حصار وسقوط الـخرطوم 26 يناير 1885م
(

( وفي الوقت الذي اصدر فيه المهدي توجيهاته للأمراء الشيخ العبيد ود بدر والأمير الشيخ حمد النيل احمد الشيخ يوسف أبو شرا ( صاحب الضريح الشهير بأمد رمان ) والأمير علي الشريف محمد الأمين الهندي ..بتوحيد الجهود لحصار الخرطوم .. انضم الشيخ عبد القادر ود أم مريوم حفيد الشيخ حمد ود أم مريوم   لركب الثورة المهدية مبايعا للمهدي ومحاصرا للخرطوم من جهة الكلاكلة .. كما قام الأمير الشيخ احمد المصطفي الأمين ود أم حقين بتشديد الحصار من جهة السروراب .. وأرسل المهدي الأمير محمد عثمان أبو قرجة بقوات مقاتلة وعهد إليه مهمة حصار الخرطوم إلي حين تحركه هو بباقي الجيش من جهات كردفان نحوها .. وتوافد أمراء الرزيقات بقيادة الأمير موسي مادبو وكوكبة من فرسان الزغاوة بقيادة الأمير طاهر إسحاق الزغاوي وصحبهم أمراء المسيرية بقيادة الأمير علي الجلة   و معهم عدد من فرسان المساليت وتوافد الفلاتة بخيلهم بقيادة الفكي الداداري .. وتقاطر فرسان الحلاويين من الجزيرة تحت إمرة الأمير ود البصير والأمير عبد الرحمن القرشي ود الزين   وثلة من فرسان الشكرية بقيادة الشيخ عبد الله عوض الكريم أبوسن .. و وفرسان العركيين بقيادة الأمير إدريس ود الشيخ مصطفي العركي وقوات من قبيلة الكواهلة بقيادة الأمير جاد الله ود بليلو.. كما تنادي فرسان كنانة ودغيم والحسنات والعمارنة ودويح بقيادة الأمير بابكر ود عامر وود مدرع والفقيه سعيد الدويحي من النيل الأبيض .. ثم عُين أمير الأمراء الأمير عبد الرحمن النجومي قائدا عاما لحصار الخرطوم .. فأحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بمعصم اليد )
( ويقول نيكول إن الإمام المهدي قد وجه الأمير محمد الخير بتجميع قوات من قبائل الجعليين والدناقلة والبشاريين والعبابدة تحت قيادة الأمير عبد الماجد محمد لمواجهة الغزاة في أبو طليح .. كما اقتطع قوات مقدرة من فرسان دغيم وكنانة من جيشه المحاصر لمدينة الخرطوم وأرسلهم كتعزيزات لهذه القوات بقيادة الأمير موسي ود حلو شقيق الخليفة علي ود حلو علي رأس فرسان الراية الخضراء وأمراء آخرين .. علي أن تبقي البقية الباقية من الراية الخضراء تحت إمرة الخليفة علي ود حلو لحصار الخرطوم .. ويتوافق كلام فيرغس نيكول مع منشور المهدي بخط يده للخليفة عبد الله بتاريخ ١١ يناير ١٨٨٥: ” حبيبي ، إن أمر جيش الانجليز مهم ، كون تعزيز الجيش فيه فوائد كثيرة وتثبيت للقلوب ، واطمئنان لأهل البلد وتشجيع لهم .. فليكن تجهيز إخوان صناديد كنحو حسن حسين وجماعته وبيرق ابن التويم المادح وبيرق أخي محمد العريق وبيرق علي بن الهاشمي وتشهيلهم بما يلزم من آلة وجباخين وليصير التنبيه علي جماعة الصديق بتشهيلهم ولا يكون في هذا الأمر تأني والسلام ” .. ( أبو سليم ، مصدر سابق ، ص ٢٠٦) .
----------------------------------------------

من  (مقال للأستاذ الصحفي : الصادق محمد سالم)
(حصار وسقوط الـخرطوم 26 يناير 1885م)
(أخر لحظة )
(رأي: الصادق محمد سالم)

المرحلة الثانية:
عزل مدينة الخرطوم عن المناطق المجاورة باحتلال أم ضوبان
والجريف شرق والجزيرة إسلانج شمالاً و الكلاكلة وأبو سعد جنوباً.

المرحلة الثالثة:
الاستيلاء على المدينة أما باستسلامها أو دخولها قسراً.


المرحلة الرابعة:
عزل المناطق المجاورة للخرطوم حيث تولى «الشيخ العبيد» حصار
الخرطوم من جهة الحلفايا شمال أم درمان من الضفة الشرقية
للنيل و«العباس بن الشيخ العبيد» حصار الجريف غرب بعد عبوره
للنيل الأزرق والشيخ «ود أم حقين» من خور شمبات غرب النيل
شمال أم درمان والشيخ «أبو ضفيرة» من أبو سعد جنوب أم درمان
والشيخ «البصير» من الحلاويين مع الشكرية تحت قيادة الشيخ
«
عبد الله عوض الكريم أبوسن» لحصار الخرطوم جنوباً وعزلها على
الجزيرة، كما عين المهدي «أبو قرجة» قائداً لجيش الحصار ومنسقاً
عاماً بين القوات وبدأ بالعدائيات من الجريف.

------------------------------------------

من قراءتنا لمقال الدكتور مصطفى موسى نستنتج التالي :
قبيل تحرك المهدي رحمه الله من مدينة الأبيض .. كان قد تلقي من قبل البيعة من الشيوخ القاطنين في الخرطوم وما حولها ... وأصدر توجيهاته ببدء حصار الخرطوم .. مما يعني منطقيا أن المناطق الطرفية للخرطوم لم تكن ضمن حماية الحامية الانجليزية .. او من الممكن القول أنها ضعفت ... وتوجيهات المهدي رحمه الله كانت رئيسية للشيوخ العبيد ود بدر رحمهم الله (مشيخة أم ضوابان) و الشيخ حمد النيل يوسف أب شرا رحمهم الله (مشيخة أمدرمان) و الشريف على الأمين الهندي رحمهم الله (مشيخة بري) .. ثم بعد ذلك تلاهم مشائخ الجهة الجنوبية من الخرطوم  ... والسؤال المطروح : لما تمت توجيهات المهدي رحمه الله لهؤلاء الثلاثة ؟
إذا رجعنا لبدايات دخول العرب وما تلاها من هجرة الشيوخ الصوفية من شمال أفريقيا والجزيرة العربية ... نجد أن السودانيين تمسكوا بمبدأ الصوفية ... وحتى إنها عادت جزءا من حياتهم اليومية ... وتفكير المهدي رحمه الله كان صائبا ... إذ أنه اصدر توجيهات للشيوخ حتى يضمن الولاء ... و الشيوخ كانوا بمثابة الملوك في بواطن الصوفية السودانيين .. ولضعف سلطة الحامية الانجليزية وتركزها حول ملتقى النيلين .. من منطقة المقرن وحتى خط السكة حديد جنوبا ... وتمركزها حول المنطقة شمال المرسى النهري ببحري و الوابورات وما حولها ... وتمركزها في منطقة بانت وما حولها بأم درمان ... فتمركز الحامية الانجليزية في هذه المناطق فقط وضعفها وقوة سلطة الشيوخ الدينية ... هي ما جعلت المهدي رحمه الله يصدر توجيهات للشيوخ الذين تلقى منهم البيعة من قبل ... حتى يضمن ولاء قاطني الخرطوم ما حولها .. وتم له ما أراد ...
وبنظرة لما يجري في ذلك الزمان ... نستشف الآتي :
أن الأوامر الصادرة للشيخ العبيد ود بدر رحمهم الله ... كانت تقتضي حصار الخرطوم من الجهة الشرقية للخرطوم بدء من الجريف شرق جنوبا وحتى حلفاية الملوك شمالا ... ولماذا هذه المناطق بالذات ... لان ما يقابلها بالضفة الغربية للنيل هو الحامية الانجليزية ... أما بالنسبة لحلفاية الملوك بالضفة الشرقية و السروراب بالضفة الجنوبية لنهر النيل فقد كان بمثابة تأمين لبوابة الخرطوم الشمالية ...
وكان واضحا محاولة الكاتب الدكتور مصطفى موسى عدم إظهار كل المشاركين وحاول تمجيد أمراء الرزيقات و الزغاوة و الحلاويين و الشكرية ونسي الجعليين و المحس و المغاربة القاطنين بمناطق حلفاية الملوك و شمبات و الشيخ حمد و خوجلي و الجريف شرق و سوبا و العيلفون ... و الذين بدأت بهم نواة الخرطوم ..
وبرجوعنا لمقال الكاتب الصحفي الصادق سالم في المرحلة الرابعة ... ورسم خطة المهدي لحصار الخرطوم ... نجد (ملاحظة غريبة) ... نجد أن الضفة الشرقية للنيل الأزرق ونهر النيل ومن حلفاية الملوك شمالا وحتى العيلفون جنوبا ... نجدها تحت أمرة الشيخ العبيد ود بدر رحمهم الله ... ورغم وجود الشيخ العباس ابن الشيخ العبيد ود بدر رحمهم الله وهو يقود الجيوش من ناحية الجريف غرب ... (وهذه الملاحظة الثانية وسنعود لها )  ...
فسيطرة الشيخ العبيد ود بدر وأبنه العباس رحمهم الله هذا يدل على أن جيش المهدي في تلك المناطق كان قوامه من ساكنيها ... من رجالات أم ضوابان و كترانج و العيلفون و سوبا و الجريف شرق والشيخ حمد و خوجلي رحمهم الله و شمبات و حلفاية الملوك و الكدرو القديمة ... هؤلاء هم قوام الجيش الرابض بالضفة الشرقية لنهر النيل و النيل الأزرق ... وحسبما ذكر الدكتور مصطفى موسي فأن الحصار قد بدأ وقوات المهدي كانت لم تصل بعد من كردفان ...
وعلى حسب جغرافية المنطقة وطبيعة الحصار ... فقد تولى الشيخ العبيد ود بدر رحمهم الله قيادة الجيش من حلفاية الملوك شمالا وحتى منطقة كوبر حاليا جنوبا ... و التي لم تكن مأهولة بالسكان في ذاك الزمان ... مع الابتعاد عن الحامية الانجليزية و التي كانت أقوى في منطقة الوابورات ببحري وما حولها ... مع استمرار المراقبة وقطع الإمدادات عنها ...
وتولي الشيخ العباس ابن الشيخ العبيد ود بدر رحمهم الله ... تولى قيادة الجيوش المحاصرة من منطقة كوبر شمالا وحتى الغابة الفاصلة بين الجريف شرق و أم دوم حاليا ... و التي كانت في السابق ممتدة حتى سوبا شرق ... مع قطع الإمدادات التي كانت تأتي للخرطوم من جهة الجريف شرق ...
وإذا عدنا للملاحظة الثانية للصحفي الصادق سالم ... وهو يتحدث عن الحصار ويقول ( من جهة الجريف غرب) ... حقيقة نحن نعتز بصلاة الرحم بيننا وبين الجريف غرب وبري والبقية ... ولكن هذا إجحافا لحق الجريف شرق ... ففي ذلك الزمان الجريف شرق أقدم وجودا من الجريف غرب .. وتمركز الهجرات كان في بري ... حول منطقة قبة الهندي حاليا ... أقلاها كان من المفترض أن يكتب من (جهة الجريف شرق) ...
وحيث إن أول دخول لجيوش المهدي لمثلث الخرطوم ... كان قد تم عن طريق الجريف شرق .. وذلك عبر المنطقة الفاصلة بين بري و الجريف غرب حاليا ... و أكثر دقة ... (منطقة مبني سجن الإصلاحية بالمنشية) ... حيث تشير جغرافية النيل الأزرق أن هذه المنطقة هي اقصر طريق لدخول الخرطوم لتقارب الضفتين ووجود جزيرة بين الضفتين ... جزيرة صغيرة ممتدة على مرتين بوسط النيل الأزرق ... وهذا ما يجعل هذه المنطقة أسهل عبورا للخرطوم ...
إذا منطقيا ... وما حدث ... حيث أن الجريف شرق هي البوابة الفعلية التي بدأ منها دخول جيوش محمد احمد المهدي ... الجيوش التي كان قوامها رجال الجريف شرق و سوبا شرق و العيلفون و كترانج ... وفعليا تمت عبور تلكم الجيوش عبر منفذ مبني سجن الإصلاحية حاليا ... وفي ذلك الوقت لم تدخل بعد جيوش الشيوخ و الحلاويين القادمين من الجزيرة و الكلاكلة ... كما نشير حسب المواقع الجغرافية لسكن القبائل ... أن رجال البطاحين و الشكرية الذين ذكرهم الدكتور مصطفى موسى ..  كانوا تحت أمرة الشيخ العبيد ود بدر وأبنه العباس رحمهم الله ...
وإذا عدنا لموقعة الحصار ... سنجد أن تمركز الجيش الذي بقيادة العباس رحمه الله ... كانت مؤونته الرئيسية تأتي من أرض الجريف شرق ... فبعد المسافة لسوبا شرق و العيلفون وخلو المنطقة بين الجريف شرق جنوبا وحتى الوابورات بحري شمالا ... كل هذا يجعل ارض الجريف شرق ومنتجاتها الزراعية هي الأشد دعما للجنود المحاصرين للخرطوم من الضفة الشرقية للنيل الأزرق ... وكما ذكرنا سابقا من هم قوام تلكم الجيوش ... هم أبناء ورجال الجريف شرق وسوبا شرق و العيلفون و أم ضوابان وأبناء البطاحين و الشكرية بأرض البطانة .. و الذين جاءوا مؤيدين لنصرة المهدي رحمه ورحمه الله جميعا ...
كما نلاحظ أيضا في مقال الصحفي الصادق سالم .. نهاية مقطع المرحلة الرابعة ... (أنه بدأ بالعدائيات بمنطقة الجريف ) وللإجحاف الظاهر ضد الجريف شرق ... فلم يكمل العبارة ... و التي من المفترض أن تكون ( وبدأ بالعدائيات من الجريف شرق) ...
للأسف ... مازالت كتب التاريخ وكتابه ومقالاته يتجاهلون عمدا دور أهل شرق النيل الأزرق الفاعل في فتح الخرطوم ... يتجاهلون الرجال و المؤونة التي قدمت لجيوش المهدي من أرض الجريف شرق وسوبا و العيلفون و أم ضوابان ... ونرجو أن لا يتجاهل كتاب التاريخ تلكم الحقائق التي يحاولون تجاهلها وتغيبها عن النشر والإفصاح والإيضاح لأهل السودان حتى يعرفوا تاريخهم أقلاها ...

ولنا عودة

اللهم أرحم شهيدي الجريف شرق ... شهيدي الأرض و العرض ... شهيدي الدم و الرحم ...
في رحاب الله الشهيد أخي (محمد عبيد) والشهيدة أمي (منى النخلي) ... اللهم أجعلهم في ركاب الشهداء و الصديقين و الصالحين ...  رحمهما الله رحمة واسعة وأسكنهم فسيح جناته وسقاهما من كوثر المصطفي صل الله عليه وسلم شربة لا يظمآن بعدها أبدا ...

وأعود اذكر بقول جدي الراحل (مصطفي علي عوض الكريم) الشهير بـ (الغول) عليه رحمة الله ... (مهما قالوا مهما كتبوا .. فالجريف من رحم واحد) ...

محمد باعـــــــــــــــــــــو
22/9/2016





الثلاثاء، 20 سبتمبر 2016

كيف تدخل الغابة (56) ... تأرخة الجريف شرق وجغرافيتها (22)


بسم الله و الحمد لله

كيف تدخل الغابة (56)
الوطن الذي لا وجيع له
الارض المحتلة ... ضد الجريف (22)
(تـــــــأرخة الجريف شرق وجغرافيتها  )

هاهي الأرض تغطت بالتعب ...
والبحار أتخذت شكل الفراغ ...
وأنا مقياس رسم للتواصل و الرحيل ...
أنا الآن الترقب ...
وإنتظار المستحيل ...
أنجبتني مريم الأخرى قطارا وحقيبة ...
ضيعتني مريم الأخرى قوافي ...
ثم أهدتني المنافي ...
هكذا خبروني ثم قالوا لي ترجل ...
ثم أنت يا كل المحاور ...
و الدوائر .. ويا حكايات الصبا ...
------------------------------------------


(الجريف شرق) هي عبارة عن منطقه سكنية تقع في عاصمة السودان الخرطوم ، ولاية الخرطوم ، محلية (شرق النيل) .

(الجريف شرق) ، بالإنجليزية تكتب وتنطق هكذا  (Aljraif East) ، هي أحد مناطق محلية شرق النيل بالعاصمة الخرطوم , سكانها يتجاوزون الــــ  17,000 نسمة (سبعة عشر ألف) نسمة ، وتقع على الضفة الشرقية للنيل الأزرق 
.

و (الجريف شرق) هي من أقدم مناطق (الخرطوم) ،  ومن المدن النواة التي كونت الخرطوم وهي : }(كترانج) و(العيلفون) و(سوبا شرق) و (الجريف شرق) و(بري) و(توتي) و(المقرن) ، و(حلة حمد) و(حلة خوجلي) و(شمبات) و(حلفاية الملوك) و(الكدرو القديمة){ ، وذلك بدء من نهايات القرن الرابع عشر للميلاد (1300) ميلادية .


وهي من أكثر أحياء العاصمة جمالاً, وكثافة السكان ويحدها شمالا مدينة (حلة كوكو) وجنوبا مدينة (امدوم) وشرقا مدينة (الحاج يوسف) ومدينة (دار السلام المغاربة) وغربا النيل الأزرق وتتكون (الجريف شرق) من ستة أحياء رئيسية ومشهورة ومعروفة , كذلك بترقيم المحطات، كما يمر بها طريق أسفلت رئيسي ، وهو شارع الشهيد (محمد عبيد) وقديما يسمي (ظلط النص) او (الجريف بالنص) ، كما يمر شرقها شارع (امدوم) ، ويتكون سكانها من الجعليين و المحس (الهجرات الأولى المكونة لمدينة الخرطوم) .


أول الأحياء ، حي (هب النسيم) او (حي أولاد باعو) أو محطة (10) ، وهو أول أحياء (الجريف شرق) شمالا حيث يترأس هذه الحي أولاد باعو و أهلها جعليين ، وهي بوابة (الجريف شرق) ويوجد بها مسجد (أولاد باعو) ومسجد (عبد الله حاج احمد كنان) ، ومسجد (أم النصر حاج احمد كنان) ، ومستوصف الزهراء ومدرسة (هب النسيم) الأساسية للأولاد ، ومدرسة (مصطفي الصديق أبو حواء) الأساسية للبنات ، ونادي (الأمل) الرياضي ، وملعبي كرة القدم لناديي (الأمل) و (الجزائر) ، و بها خلوة المرحوم (حاج الأمين باعو) لتعليم النساء ، وهي من أوائل الخلاوي التي أسست لتعليم النساء في السودان ، ويعتبر المرحوم (حاج الأمين باعو) من رواد تعليم النساء الأوائل في السودان ، وأنشئت الخلوة في الثلاثينات من القرن الماضي (1930) .

ثم تلتقي في محطة (9) او محطة (حوش الضوء) ، حيث يترأس هذه المنطقة المحس ، والتي تحتوى على عائلة كبيرة وهما أخوين حاج الضوء والدليل ، لذا أطلق علي الحي هذا الاسم حي (حوش حاج الضوء و الدليل) ، و بها مسجد (حوش حاج الضوء) ، ومدرسة (ميمونة بنت الحارس) الأساسية للبنات ونادي (الجزائر) الرياضي .

ثم تلتقي في محطة (8) والتي تضم مسارين حي (المناشير) و(القرية 8) و التي أحيانا تسمى محطة (قهوة العشاى) ، حيث يوجد بها مسجد (حاج علي) ، وحسب المتناقل من الروايات لكبار الحي و المتوفين قريبا ، فأن أرض مسجد حاج علي هي منطقة صلاة العيد للهجرات الأولي لأهل الجريف ، بتاريخ دولة الفونج ،  حيث تعتبرهي الإرث القديم لما يسمى حاليا بالجريف شرق , وفيها خلوة (الفكي يوسف بابكر) وهى من أكبر الخلاوي لتحفيظ القران الكريم في شرق النيل , وأيضا كلية (علوم القران) ومسجد وقبة (روح الشيخ ود بدر) , وأيضا (المعهد) او كما يطلق عليه (المحد) ، والذي خرج الرعيل الأول من أبناء (الجريف شرق) و (امدوم) ، ومدرسة (الجريف شرق) الأساسية للبنين .

ثم محطة (7) او محطة (جريف قمر) او (سوق قمر) , وتجد بها السوق الكبير (للجريف شرق) (سوق قمر)  ، مسجد ( نابري)  ومسجد (الصوفية) ، ومقابر (الجريف شرق (1)) ، ومدارس (الخير حاج موسى) الثانوية للبنات ، وقسم (شرطة الجريف شرق) ، ونادي (التضامن) الرياضي ، ونادي (السلام) الرياضي ومركز (شباب الجريف شرق) الثقافي ، وهو (احد مراكز الشباب الثقافية الأربعة المعروفة بالخرطوم – مركز شباب بحري ومركز شباب الربيع ومركز شباب السجانة)  ، كما يحتوي حي (جريف قمر) او محطة (7) على السوق الرئيسي الأول لمدينة (الجريف شرق) .

ثم تأتى أحياء (الشيخ سرحان)، وهو الشيخ العلامة المعروف الفكي سرحان، ويحتوي على مسجد (الشيخ سرحان) ، مسجد الجهاد ، وعدد من المساجد و (المركز الصحي) ومحطة تقوية مياه ، ومدرسة (مبارك زروق) الثانوية للبنين ، وعدد من النوادي الرياضية على سبيل المثال : نادي (العاصفة) الرياضي ، ونادي (الأمير) الرياضي ، ونادي (الصبية الرياضي) ونادي (الاولمبي) الرياضي ، كما يتقاسم حي (سرحان) مع أحياء (كركوج) ميادين كرة القدم ، في اكبر مساحة تجتمع فيها أندية رياضية على مستوى ولاية الخرطوم ، وتوجد به عدد من مدارس الأساس للبنين و البنات ، ومحطة وقود ، ومقابر (الجريف شرق) الثانية .

ثم حي (كركوج) , وهى آخر أحياء (الجريف شرق) جنوبا ، وحسبما ذكر التاريخ فأن (عجيب المانجلك) زعيم العبدلاب قتل فيها (معركة كركوج المشهورة) ، وتنقسم كركوج إلى عدة أحياء أشهرها  حي (فريق الشفيع) ، وحي (النمر) ، وحي (الحوش)  ، وحي (فريق التريبه) ، وحي (الدناقلة) وحي (الحضارة) ، وحي (تنزانيا) ، وحي (الجدول) ، وحي (الزهور) ،  ويوجد بها سوق (كركوج) الرئيسي و الذي هو ثاني اكبر سوق بالجريف شرق ، ويوجد بها عدد من المدارس على سبيل المثال : مدرسة (إبراهيم صباحي) الأساسية للبنين ، مدرسة (كركوج) القديمة الأساسية للبنين ، ومدرسة (ابن الجراح) الأساسية للبنات ، ومدرسة (أم أيمن) للأساس ، ومدرسة (النعمة) الثانوية للبنات ، ومدرسة (الشفيع) ، ومعهد (سلمى) الفني لتعليم الخياطة ، ومن المساجد تجد بها مسجد (النمر) ، ومسجد (الصفا) ، ومسجد (أنصار السنة) ، ومسجد (الحوش) ، مسجد (الفكي خليل) ، ومسجد (طراف) ، ومسجد (الفكي خليل) ، ومسجد (عبود ابوروف) ، ومن الأندية الرياضية تجد نادي (السهم) الرياضي ، ونادي (كركوج) الرياضي ، ونادي (الهدف) الرياضي ، ونادي (النجوم) الرياضي ، ونادي (قلب الأسد) الرياضي ، ونادي (الجوهرة) الرياضي ، ونادي (الكوكب) الرياضي ، ونادي (الشعلة) الرياضي ، ونادي (القادسية) الرياضي ، وصهريج ومحطة مياه (الجريف شرق) .

و(الجريف شرق) من أقدم المناطق بالخرطوم على وجه الخصوص ، حيث نشأت في زمن الهجرات الأولى (تاريخ مملكة الفونج) في نهايات القرن الرابع عشر ، (1300) ميلادية ، وفي ذلك التاريخ كانت تسكن الخرطوم قبائل تسمي (العنج) ، وهي قبائل تتبع لقبائل جنوب السودان (القبائل النيلية) ، وقد قامت الهجرات الأولى بطرد هؤلاء (العنج) ، وتلكم الهجرات هي التي كونت مدن النواة الأولى للخرطوم ، وهي مدن (كترانج) و(العيلفون) و(سوبا شرق) و (الجريف شرق) و(بري) و(توتي) و(المقرن) ، و(حلة حمد) و(حلة خوجلي) و(شمبات) و(حلفاية الملوك) و(الكدرو القديمة) .

و الهجرات التي استوطنت (الجريف شرق) كان تكوينها الأساسي من قبائل الجعليين و المحس ، و كانت حرفتهم الرئيسية الزراعة ، ونشأت (الجريف شرق) منذ ذلك التاريخ (1300) ميلادية ، وحسبما نقل الرواة و الثقاة وناقلي التاريخ ، فقد كانت البيوت قليلة و متفرقة على امتداد المنطقة من (حلة كوكو) شمالا وحتى غابة السنط الفاصلة بين (الجريف شرق) و(امدوم) جنوبا ،  و التي كانت غابة كثيفة في ذلك الزمان ، و كانت البيوت تبني من الطين ، وكان قليلة ومتفرقة  ، كل خمسة او ستة اسر في منطقة من المناطق الحالية شمالا من (أولاد باعو) وحتى( كركوج) جنوبا ، وتفصل بين كل حي في ذلك الزمان مساحات كبيرة من المزارع .

ومن زمن بعيد تم معرفة مسار النيل الطبيعي عن الفيضان ،  لذا جاءت المسافة بين أحياء (حلة ورا) وحتى النيل ،  وتستغل هذه المساحات بين النيل و البيوت فقط لزراعة الخضروات وعلف الماشية .

وقد ساهمت (الجريف شرق) بالرجال و المؤونة في حملة المهدي للخرطوم ، حيث كانت تتبع للحامية الانجليزية بالخرطوم ، وعندما وصل رسول المهدي للخليفة الشيخ (العبيد ود بدر) رحمهما الله ، تم المبايعة لمدن (أم ضوا بان) و (الجزيرة أسلانج) و (العيلفون) و(كترانج) و(سوبا) و (الجريف شرق) و(حلة حمد) و(الشيخ خوجلي) و(شمبات) و (حلفاية الملوك) و (الكدرو) القديمة ( وهذا ما اقفله رواة التاريخ ) .

وذلك أن الجيش المتمركز على الضفة الشرقية للنيل الأزرق ونهر النيل (أيام فتح الخرطوم) ، كان كل جنوده والذين تم جمعهم بواسطة الخليفة الشيخ (العبيد ود بدر) رحمهما الله ، و الذي كان خليفة (أم ضوا بان) في ذلك الزمان ، كان قوام الجيش من المدن أعلاه ، حيث تمت المبايعة من أهل هذه المدن ، وشاركوا جميعا بالرجال و المؤونة ، وكانوا في الجيش المحاصر للخرطوم بمنطقة (الجريف شرق) حاليا (غابة السنط) وحتى منطقة (حلفاية الملوك) شمالا حاليا ، وتم التقسيم لجيشين من الضفة الشرقية للنيل الأزرق و نهر النيل ، حيث كان الجيشين تحت قيادة الخليفة الشيخ (العبيد ود بدر) رحمهما الله (قيادة مركزية) ، بينما تولي الخليفة الشيخ (العبيد ود بدر) رحمهما قيادة الجيش الأول من حدود (حلفاية الملوك) وحتى منطقة (كوبر) ، بينما تولي الخليفة الشيخ (العباس ابن العبيد ود بدر) رحمهم الله قيادة الجيش الثاني من منطقة (كوبر) وحتى منطقة غابة السنط نهاية الفاصلة بين (الجريف شرق) و (أم دوم) .

وكان (للجريف شرق) و(سوبا) و (العيلفون) قصب السبق في توفير الرجال و المؤونة ، وكان نصيب (الجريف شرق) في الرجال و المؤونة  أقوى لتمركز الجيش بها ، وبواسطتها كان أول دخول لفيالق المهدي وهي تعبر إلي أرض (الجريف غرب) حاليا ، وكانت أول قوة تدخل (الخرطوم) من جيش المهدي .

 كذلك تم اكتشاف مقبرة أثرية يعود تاريخها إلى أربعة ألف وخمسمائة عام بواسطة البعثة الفرنسية ... ويفصل هذا العصر ما يقارب الثلاثة ألف سنة من بدء عصور الإنسانية القديمة .. وتقع منطقة المقبرة شمال حي (هب النسيم) ويمر بها كبري (الجريف المنشية) حاليا ... وتوجد الآثار المكتشفة من عظام وأدوات معروضة بمتحف السودان القومي حتى اللحظة ...


ولنا عودة




اللهم أرحم شهيدي الجريف شرق ... شهيدي الأرض و العرض ... شهيدي الدم و الرحم ...
في رحاب الله الشهيد أخي (محمد عبيد) والشهيدة أمي (منى النخلي) ... اللهم أجعلهم في ركاب الشهداء و الصديقين و الصالحين ...  رحمهما الله رحمة واسعة وأسكنهم فسيح جناته وسقاهما من كوثر المصطفي صل الله عليه وسلم شربة لا يظمآن بعدها أبدا ...

وأعود اذكر بقول جدي الراحل (مصطفي علي عوض الكريم) الشهير بـ (الغول) عليه رحمة الله ... (مهما قالوا مهما كتبوا .. فالجريف من رحم واحد) ...

محمد باعـــــــــــــــــــــو
20/9/2016

الاثنين، 19 سبتمبر 2016

كيف تدخل الغابة (55) ... التاريخ ينسى الجريف شرق (21)



بسم الله و الحمد لله

كيف تدخل الغابة (55)
الوطن الذي لا وجيع له
الارض المحتلة ... ضد الجريف (21)
(التاريخ ينسي الجريف  )

هاهي الأرض تغطت بالتعب ...
والبحار أتخذت شكل الفراغ ...
وأنا مقياس رسم للتواصل و الرحيل ...
أنا الآن الترقب ...
وإنتظار المستحيل ...
أنجبتني مريم الأخرى قطارا وحقيبة ...
ضيعتني مريم الأخرى قوافي ...
ثم أهدتني المنافي ...
هكذا خبروني ثم قالوا لي ترجل ...
ثم أنت يا كل المحاور ...
و الدوائر .. ويا حكايات الصبا ...
------------------------------------------
السلام عليكم ورحمة الله تعالي وبركاته ، وكل عام وانتم بالف خير .
لقد قمت بنقل مقالين للدكتور / محمد المصطفى موسى  والاستاذ الصحفي / الصادق محمد سالم ، حتى يتسنى لنا رؤية الجريف شرق وقدمها وأرثها ، وكيف أنها شاركت في حملة المهدي للخرطوم ولكن لم يتم ذكرها الا لماما ، مع انه كان لها الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في مد جيوش المهدي المحاصرة من جهة الغرب تحت أمرة الشيخ العباس ابن الشيخ عبيد ود بدر رحمهم الله ، كان للجريف شرق الفضل في تكفية هذا الجيش من كل مؤنة ، بالاضافة الى الرجال الذين شاركوا في المعركة ، ولكن كتاب التاريخ أنسونا حظنا وحظ الجريف شرق من التاريخ 
(مقال : د. محمد المصطفي موسي)
بعنوان (
حصار وسقوط الـخرطوم 26 يناير 1885م (
عندما اشتد ساعد الثورة المهدية وتوالت انتصاراتها في دارفور وكردفان وشرق السودان .. قررت بريطانيا بالتوافق مع مصر الخديوية إرسال الجنرال تشارلز غردون حاكما عاما علي السودان .. غردون الذي ملأ الدنيا وشغل اهل بريطانيا بانتصاراته الباهرة لمصلحة الامبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس .. والتي زخمت الآفاق امتدادا من ارض الصين البعيدة والتي قمع فيها أكبر ثورة شعبية ضد الاستعمار البريطاني وانتهاءا بانتصارته التي سبقت بارض القرم في أقاصي أوربا .. ويقول البريطاني فيرغس نكول صاحب كتاب ” مهدي السودان ومقتل الجنرال غردون ” .. ” في ٢٦ يناير ١٨٨٤ عندما استقل غردون القطار جنوبا من القاهرة في رحلته النهائية نحو السودان .. كان يبعد حوالي العام تماماً من حتفه النهائي !” .. ( فيرغس نيكول : مهدي السودان ومقتل الجنرال غردون ، دار سوتون Sutton للنشر ، جلوستارشاير ، المملكة المتحدة ٢٠٠٤، ص ١٨٧).
وعندما وطأت قدما غردون ارض مدينة الخرطوم في ١٨ فبراير ١٨٨٤ .. كانت توجيهات الامام المهدي قد سبقت للامير عثمان دقنة في شرق السودان بالإسراع في عملية تحرير مدن الشرق وقطع الطريق امام اي تعزيزات بريطانية عن طريق البحر الأحمر .. ووجه المهدي من خلال منشوراته الامير عبدالله حامد بسرعة توحيد قواته مع عثمان دقنة لتحقيق هذا الغرض.. واستجاب شيوخ المجاذيب بقيادة الشيخ الجليل الطاهر المجذوب لنداءات الثورة المهدية فقاتلوا في صفوفها.. كما تقاطر فرسان الهدندوة والامرأر والحباب والحلانقة والبني عامر لقتال المستعمرين تحت إمرة عثمان دقنة ..فكانت انتصارات دقنة الساحقة علي قوات الجنرال البريطاني فالنتاين بيكر   واختراق المربع الانجليزي للمرة الأولي في التاريخ .. وأعقب ذلك تحرير طوكر وسنكات .. وإزاء ذلك يقول ونستون تشرتشل ” رئيس وزراء بريطانيا لاحقا” في كتابه حرب النهر : ” احس غردون بان وضعه في الخرطوم صار مهددا بسبب العمليات العسكرية في خط انسحابه المفترض ” ويسرد تشرتشل كيف ان بريطانيا قررت إرسال السير جراهام بقوات بريطانية خالصة من الهند   وكيف ان عثمان دقنة احدث وسط قواته خسائراً فادحة شملت خيرة الضباط البريطانيين ولم يخف تشرتشل إعجابه بعثمان دقنة حينما يصفه بالقائد المحنك القادر علي تنفيذ انسحابات ذكية بعد خسائر قاربت ال ٤٠٠ جنديا بريطانيا من جيش السير جراهام.. ( ونستون تشرتشل : حرب النهر ، Mau Publising , نسخة الكترونية بتاريخ ٢٠١٣ ، ص ٧٤ ) . الجدير بالذكر ان مناورات عثمان دقنة العسكرية الناجحة مع القوات البريطانية في الشرق قد دفعت   الجنرال الاستخباراتي البريطاني ريجنالد ونجت لاحقا علي وصف عثمان دقنة لاحقاً ” بثعبان الماء الزلق” .. كناية علي عبقريته العسكرية ! .. لقد كانت تعليمات المهدي المشددة لعثمان دقنة واضحة تماماً .. وهي البقاء في شرق السودان لمنع اي قوات بريطانية من التقدم ريثما يتم تحرير الخرطوم . لقد طارت أصداء انتصارات الثورة المهدية علي القوات البريطانية .. في شرق السودان.. لاصقاع أوربا البعيدة فكتب شاعر بريطانيا الاول آنذاك ” كبلينج ” .. اروع قصائده عن معارك المهدية مع القوات البريطانية في شرق السودان .. بعنوان Fuzzy Wuzzy ..
في ما وراء البحار جالدنا أقواماً شتى
بعضهم كان باسلاً.. وبعضهم لم يكن
باتان، وزولو، وبورميين
لكن الأشعث كان أعجبهم
لم يمنحنا معشار فرصة
بل لبد راصداً في الحرش.. ثم عقر خيلنا!
مزق أرصادنا في سواكن
ولاعبنا لعبة القطة والفأر
يا أيها الأشعث الثائر في وطنك السودان
يا لك من فارس لعين ومقاتل من النخب الأول
ولو شئت أعطيناك بذلك شهادة إقرار
ولو شئت أتيناك لنحتفل سويا بالإقرار
الأشعث ليس لديه أوراق تمجِّده كأوراقنا
لا ميداليات ولا مكافآت يتلقاها كمكافآتنا
فعلينا نحن إذن أن ندوِّن له كلمات النصر
وهو يقفز كالشيطان بين أشجار الحرش
حاملا .. ترساً وحربة !
خذ القول يا أشعث أنت وأصدقاءك الذين فقدت
برغم أننا لم نشيّع من أصدقائنا قدر ما شيعت
إلا أن الصفقة عادلة يا أشعث
لقد قدمت ضحايا أكثر مما قدمنا
لكنك يا ماكر… كسرت في النهاية صندوقنا
أخيراً إليك يا أشعث في وطنك السودان
أيها الفارس اللعين والمقاتل المصطفى
إليك يا ذا الشعر الثائر..
تهانينا يا أحمق يا مغوار فقد كسرت المربع البريطاني !
( كبلينج : Barrack room ballads by Rudyard kipling ، جامعة اكسفورد، المملكة المتحدة – نسخة الكترونية ٢٠١٢ ، ص ١٤ ، ترجم النص للعربية الدكتور غازي صلاح الدين ).
وفي الوقت الذي اصدر فيه المهدي توجيهاته للأمراء الشيخ العبيد ود بدر والأمير الشيخ حمدالنيل احمد الشيخ يوسف ابو شرا ( صاحب الضريح الشهير بأمدرمان ) والأمير علي الشريف محمد الامين الهندي ..بتوحيد الجهود لحصار الخرطوم .. انضم الشيخ عبدالقادر ود ام مريوم حفيد الشيخ حمد ود ام مريوم   لركب الثورة المهدية مبايعا للمهدي ومحاصرا للخرطوم من جهة الكلاكلة .. كما قام الامير الشيخ احمد المصطفي الامين ود ام حقين بتشديد الحصار من جهة السروراب .. وأرسل المهدي الامير محمد عثمان ابوقرجة بقوات مقاتلة وعهد اليه مهمة حصار الخرطوم الي حين تحركه هو بباقي الجيش من جهات كردفان نحوها .. وتوافد امراء الرزيقات بقيادة الامير موسي مادبو وكوكبة من فرسان الزغاوة بقيادة الامير طاهر إسحاق الزغاوي وصحبهم امراء المسيرية بقيادة الامير علي الجلة   و معهم عدد من فرسان المساليت وتوافد الفلاتة بخيلهم بقيادة الفكي الداداري .. وتقاطر فرسان الحلاويين من الجزيرة تحت إمرة الامير ود البصير والأمير عبدالرحمن القرشي ود الزين   وثلة من فرسان الشكرية بقيادة الشيخ عبدالله عوض الكريم أبوسن .. و وفرسان العركيين بقيادة الامير ادريس ود الشيخ مصطفي العركي وقوات من قبيلة الكواهلة بقيادة الامير جادالله ود بليلو.. كما تنادي فرسان كنانة ودغيم والحسنات والعمارنة ودويح بقيادة الامير بابكر ود عامر وود مدرع والفقيه سعيد الدويحي من النيل الابيض .. ثم عُين امير الأمراء الامير عبدالرحمن النجومي قائدا عاما لحصار الخرطوم .. فاحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بمعصم اليد ! .. ولعل تاريخ السودان القريب او البعيد لم يشهد تنادي أشتات نخبوية وشعبية سودانية مختلفة لمحاربة الاحتلال تحت راية سودانية موحدة كذلك الذي حدث إبان عملية تحرير الخرطوم.. وفي هذا الشأن يقول البروفيسور الامريكي ريتشارد ديكميجيان استاذ العلوم السياسية بجامعة جنوب كاليفورنيا .. في سفره القيم بعنوان ( كاريزما القيادة في الاسلام ، مهدي السودان ) : ” لقد كانت مقدرة المهدي علي مخاطبة وتحريك الجماهير افضل مثال للبساطة والوضوح المطلوب .. في مجتمع معقد ومتعدد الأعراق والثقافات كما هو حال السودان في القرن التاسع عشر .. كانت الثورة المهدية تمثل نقطة التقاء لمطامح وامال عريضة لقوي قبلية واجتماعية وسياسية مختلفة قاومت الاحتلال الأجنبي . لقد كان لكاريزما القيادة عند المهدي الدور الأكبر في تجاوز تقاطعات تلك القوي و استرضاء اشتاتها المختلفة وتحقيق التجانس والانصهار بينها ثم الوحدة الوطنية ومن ثم الانتصار للثورة ” .. ( ريتشارد ديكميجيان و مارغريت وزموريسكي : كاريزما القيادة في الاسلام : مهدي السودان ، جامعة نيوريورك ، الولايات المتحدة،١٩٧٢ ، ص ٢٠٦) .
وفي اكتوبر١٨٨٤ وصل الامام المهدي الي ضواحي الخرطوم بجيشه فاستقبله كبار الأمراء .. ولحظ الجميع تورم قدميه حيث ان القائد أصر علي قيادة الجيش بنفسه وهو يمشي راجلا من كردفان الي الخرطوم .. تضامنا وتشجيعا لبعض أنصاره من المشاة الذين لا يمتلكون جيادا او دوابا للسفر. ولم يهدر القائد الكثير من الوقت فاصدر منشوره الشهير لقوات الثورة المهدية المحاصرة للخرطوم حاثا علي الانضباط وعدم التعرض للمدنيين ..و الذي جاء فيه : ” حيث لا يخفي عليكم ان الظلم دمار وهو محرم كتب وسنة وليس من دأب الأخيار وإنما هو طريق الكفار الفجار . وانتم أنصار الله وقد خرجتم في سبيل الله ، فاحذروا من فساد هجرتكم وصونوا أنفسكم من التعرض للناس في حقوقهم وأموالهم ونسائهم بالطريق لغاية وصولكم ذهابا وإيابا واعلموا ان من تعدي علي احد في نفسه أو ماله أو نسائه فنحن غير راضين عليه ولابد ان ينتقم الله منه في الدنيا قبل الآخرة” .. ( ابوسليم : الاثارالكاملة للامام المهدي ،دار جامعة الخرطوم للنشر ، ١٩٩٢، ص ١٦١ ) .
ويسرد فيرغس نكول مجهودات المهدي لحقن الدماء و ومحاولة إقناع غردون بتسليم المدينة حين يقول ” لقد شرع محمد احمد المهدي في حملة مراسلات مطولة امتدت لزهاء العشرة أشهر لإقناع غردون بالعودة الي بلاده مكرماً بدلا من إزهاق باقي عمره في الدفاع عن ما لا فائدة في الدفاع عنه ! ” ..   كما بدأ الامير محمد عثمان ابوقرجة حملة مراسلات مع غردون لتحقيق نفس الغرض من دون نجاح يذكر .. وقد أورد المؤرخ البريطاني الفريد هيك صاحب كتاب ” يوميات الجنرال غردون ” أورد .. نص خطاب الامير عبدالرحمن النجومي لغردون والذي نقله نيكول ايضا .. وجاء فيه : ” لقد مضي زمن طويل وانت لا تريد الإذعان والتسليم .. ولقد أمدنا الله الان بالرجال الأشداء الشجعان   ومنهم أصحابنا وأحبابنا ..رجال يحبون الموت في سبيل الله تماماً كما تحب انت الحياة ! .. يجاهدونك طمعا فيما عند الله من ثواب .. الموت أحب اليهم من زوجاتهم ومن كل ما يملكون في هذه الدنيا الفانية .. ان المهدي يعمل لخيرك وصلاحك .. وعلي الرغم من ذلك ما زلت انت في عنادك وتكبرك .. تدير ظهرك لذلك وتعتمد علي قواك الزائلة والتي ستتجرد منها قريبا بإذن الله “..( نيكول : مصدر سابق ، ص ١٨٩ ، ص ٢٠١ ) .. وعوضا عن الرد علي ود النجومي .. ارسل غردون مجموعة خطابات لإمبراطور روسيا وإمبراطور النمسا وملك إيطاليا والبابا ليو الثالث عشر يحثهم علي دعمه في مواجهة الثورة المهدية وخطرها .. ويصور الامر علي انه نوعٌ من صراع الحضارت .( خطابات غردون لملوك أوربا وبابا الفاتيكان بتاريخ١٦،١٥-٤-١٨٨٤.. فيرغس نيكول:جلادستون و غوردون وحروب السودان ، Publisher Pen and Sword, نسخة الكترونية ٢٠١٣ ، ص ٢٨٤ ) .
وفي الناحية الأخري   من شمال الكرة الأرضية.. يذكر   “لايتون ستريتشي” في مؤلفه بعنوان ” نهاية الجنرال غردون “.. كيف بدأت حملة الرأي العام البريطاني تضغط جلادستون رئيس الوزراء البريطاني آنذاك .. للعمل علي إرسال جيش إنقاذ بريطاني لاسترداد هيبة بريطانيا التي تمرمغت في تراب السودان.. وفي مارس ١٨٨٤ ارتجل جلادستون خطبة عصماء في مجلس العموم البريطاني ردا علي هذه الحملة المحمومة وختمها بعبارته الأشهر علي الإطلاق .. ملخصا الوضع في السودان كما يراه هو .. ” ان هذا الشعب يناضل من اجل حريته .. ومن حق هؤلاء ان يناضلوا   من اجل حريتهم ! ” ..مما اثار حفيظة صقور مجلس العموم البريطاني بقيادة اللورد هارينجتون وزير الحربية وآخرين.. بينما استبقت الملكة فكتوريا الجميع بخطابها لرئيس وزرائها” جلادستون” الصادر من قصر باكينجهام بتاريخ ١٨٨٤ ..” ان لجلالة الملكة مشاعر قوية تجاه ما يحدث في السودان .. انها تعتقد انه لابد من توجيه ضربة قوية لهؤلاء المسلمين   حتي يعلموا جيدا انهم لم يهزمونا بعد ! هؤلاء الأعراب المتوحشون لن يتماسكوا ليجترئوا علي الوقوف امام جيوش جيدة ومنظمة ..ان جلالة الملكة لترتجف من اجل سلامة الجنرال غردون وان أصابه اي مكروه ستكون النتائج في غاية السوء ” .. ( روبن نيللاندز   : حروب المهدية.. غردون وكتشنر في السودان ١٨٨٠- ١٨٨٩ ، جون موري للنشر ، لندن ١٩٩٦ ، ص ١١٢)   .. وهكذا اندفعت بريطانيا بقضها وقضيضها لقمع الثورة السودانية الوليدة ! .. فتمخض ذلك عن إرسال جيش حملة الانقاذ البريطاني الشهير بقيادة اللورد ولسلي علي وجه السرعة و دون إبطأ !
عندما لاحت طلائع الجيش الانجليزي بقيادة ولسلي في أقاصي شمال السودان في أواخر اكتوبر ١٨٨٤ .. رفع امير الشمال .. الامير الشيخ محمد الخير ” استاذ المهدي سابقا” تقريرا مفصلا عن جيش الغزاة لتلميذه السابق وقائده الجديد محمد احمد المهدي .. كما عقد المهدي مجلس شوراه بحضور الخلفاء وكبار الأمراء في منطقة ابوسعد بمحاذاة مدينة الخرطوم حيث كان يعسكر بقواته .. وتقرر استدراج جيش ولسلي لمواجهة واسعة في منطقة ابوطليح يكون الهدف منها تعطيل تقدم الجيش البريطاني الغازي لحين تحرير الخرطوم.. وقد تم وضع خطة محكمة تعتمد علي استدراج الحملة البريطانية من خلال الصحراء الكبري وحرمانها من موارد الماء بالاشتباكات الخاطفة المتواصلة حول الآبار .. ودفن اكبر عدد من الآبار في طريق الحملة .. وأرسل المهدي بدوره خطابا متوعدا لغردون.. أورده المؤرخ الوطني الاستاذ عبدالمحمود ابوشامة في مؤلفه القيم ” من ابا الي تسلهاي” :
”   واعلم انني حضرت بجيوشنا المنصورة وأصحابنا وأحبابنا المؤيدين بالنصر من عند الله .. وكن علي يقين اني علي علم بحضور عساكر الانجليز بجهة دنقلا ، ولكن لست مباليا بهم ولا بغيرهم بفضل الله .. وسيكون لهم أسوة بجيوش هكس والشلالي ، ولا تغرنك نصرتك المتوالية فكل من استشهد عن أمرنا رأفة بهم لينالوا درجة الصالحين تصديقا لقوله تعالي ” ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل احياء عند ربهم يرزقون ” ولولا مراعاة حسم دماء المسلمين لضربت صفحا عن مخاطبتك وبادرتك بالهجومات التي لا أشك في نجاحها . فسلم تسلم انت ومن معك ، وقد نصحتك وأنصحك وإلا فالحرب بعد ذلك والسلام علي من اتبع الهدي ” .. ( ابوشامة : من ابا الي تسلهاي ، الخرطوم، ١٩٨٦ ، ص ١٩٢) .
ويقول نيكول ان الامام المهدي قد وجه الامير محمد الخير بتجميع قوات من قبائل الجعليين والدناقلة والبشاريين والعبابدة تحت قيادة الامير عبدالماجد محمد لمواجهة الغزاة في ابوطليح .. كما اقتطع قوات مقدرة من فرسان دغيم وكنانة من جيشه المحاصر لمدينة الخرطوم وأرسلهم كتعزيزات لهذه القوات بقيادة الامير موسي ود حلو شقيق الخليفة علي ود حلو علي رأس فرسان الراية الخضراء وأمراء اخرين .. علي ان تبقي البقية الباقية من الراية الخضراء تحت إمرة الخليفة علي ود حلو لحصار الخرطوم .. ويتوافق كلام فيرغس نيكول مع منشور المهدي بخط يده للخليفة عبدالله بتاريخ ١١ يناير ١٨٨٥: ” حبيبي ، ان امر جيش الانجليز مهم ، كون تعزيز الجيش فيه فوائد كثيرة وتثبيت للقلوب ، واطمئنان لاهل البلد وتشجيع لهم .. فليكن تجهيز اخوان صناديد كنحو حسن حسين وجماعته وبيرق ابن التويم المادح وبيرق اخي محمد العريق وبيرق علي بن الهاشمي وتشهيلهم بما يلزم من آلة وجباخين وليصير التنبيه علي جماعة الصديق بتشهيلهم ولا يكون في هذا الامر تأني والسلام ” .. ( ابوسليم ، مصدر سابق ، ص ٢٠٦) .
اما اللورد ولسلي قائد جيش الانقاذ البريطاني فقد استهل حملته بخطاب غرور لغردون في الخرطوم.. تعبر كلماته عن صلف استعماري بريطاني مقيت .. وهو القائد المزهو بقيادة جيش قارب تعداده الأربعة عشرة الف جندي بريطاني ! وجاء في الخطاب   ” وصلني كتابك بتاريخ ٤ نوفمبر وهو اول كتاب أخذته منك وسأكون في دنقلا بعد أربعة ايام ، ويكون الجيش بين الدبة وأمبقول في ٧ يناير ١٨٨٥ ولست أعطيك تفصيل القوات التي يتألف منها الجيش ولكن تأكد انها كافية لسحق محمد احمد المهدي وأنصاره ومحو ذكره من الوجود وكلما زاد عدد مقاتليه زاد سرورنا لانه بذلك يزيد عدد قتلاهم ” .. ( ابوشامة: مصدر سابق، ص ١٩٦ ) .. ولكن اللورد البريطاني المتعجرف لم يكن يعلم حجم الأهوال التي تنتظر جيشه في السودان ..فقد كان التنسيق علي اعلي مستوي بين أمراء الثورة المهدية والمهدي نفسه لتلقينه درسا تاريخيا.. مما حول مهمته الي كابوس ظل يطارده طوال حياته.
عندما تحرك طابور الصحراء بقيادة الجنرال ستيوارت الي الامام من آبار الجقدول وجد قوات المهدية قد احتلت ابارابوطليح” في ليلة ١٦ يناير ١٨٨٤ .. فكان لزاما عليه ان يتحرك لآبار ابوطليح حتي يصل مورد الماء   ليبقي علي قواته التي   أنهكها الظمأ وكادت ان تحترق بفعل شمس صحراء السودان القاسية ..فكانت موقعة ابوطليح الفاصلة بتاريخ ١٧ يناير ١٨٨٤ .. ذلك الفخ الذي عملت قوات المهدية علي استدراج حملة الانقاذ اليه ببراعة فائقة ..وهكذا وصل الامير موسي ود حلو بقواته لتعضيد قوات الجعليين الباسلة في المتمة بقيادة الامير علي ود سعد والأمير عبدالماجد محمد خوجلي .. فعقد لواء القيادة للامير موسي ود حلو   وبعد ترديد دعاء الحرب ثلاثا كما أوصاهم الامام المهدي .. انطلقت قوات الانصار لمهاجمة المربع الانجليزي المتقدم .. ونترك المجال للمؤرخ الاستاذ عبدالرحمن الحلو   ليرسم لنا لوحة المعركة : ” قام الانصار بهجوم عاصف علي مؤخرة وواجهة المربع الانجليزي فكسروا ضلع المربع وأجبروه علي التراجع . وتلي ذلك قتال مواجهة رجل لرجل . اغتنم الامير موسي ود حلو الفرصة واخترق المربع الانجليزي وسط ذهول أعدائه حتي وصل الي وسطه ممسكا برايته الخضراء في يده اليسري والمصحف في يده اليمني .. فأسرع رجاله خلفه فثبتوا الراية بالحجارة في داخل المربع الانجليزي! ..” ( عبدالرحمن ابراهيم الحلو :الخليفة علي ود حلو : صاحب الراية الخضراء، مطابع العملة ، الخرطوم ٢٠١٢ ، ص ١٠٧ ).. وجري اشتباك دامي بالرماح والسيوف مما قلل من فعالية النيران الانجليزية ونتيجة لذلك ..خّر الكولونيل البريطاني برنيبي صريعا برمح الامير البشير عجب الفيا مع ١٧ من خيرة ضباط الحملة وقُتل ما يقارب ال ٣٦٨ من الجنود البريطانيين وسقط ١٠٦٩ جريحا منهم. ( ابوشامة : مصدر سابق ، ص٤١٣ ) ..وعلق المؤرخ البريطاني تشارلز رويال علي احداث ابوطليح قائلا: ” لقد قاتل السودانيون ببسالة عجيبة وأبدوا استهانة مذهلة بالموت “.. ( تشارلز رويال : حروب المهدية، السودان ١٨٨٤-١٨٩٨ ، Leonaur Publishing ، لندن ٢٠١٣ ، ص٣٦٤ ) .. استشهد من قوات المهدية عدد مقدر وكان أبرزهم الامير الشجاع موسي ود حلو   والذي ابر بوعده للامام المهدي بغرس راية الثورة المهدية الخضراء في قلب المربع الانجليزي ! واستشهد أيضاً الفارس محمد بن الامير علي ود سعد والذي لم يبلغ العشرين بعد ! بينما جرح والده الامير علي ود سعد في كتفه .. لقد الهم ثبات السودانيين في “ابوطليح” الشاعر البريطاني السير هنري نيوبولت فنظم قصيدته الشهيرة بعنوان   Vitai Lampada ..التي ترثي ابياتها الحزينة قتلي الجيش البريطاني وفي مقدمتهم الكولونيل برنيبي .. وجاء فيها:
ها هي رمال الصحراء قد تخضبت باللون الأحمر ..
حمراء هي .. بلون حطام المربع الانجليزي المنكسر !
لقد صمت المدفع .. و قُتِلَ الكولونيل !
قُتل الكولونيل .. قُتل الكولونيل !
( نيللاندز : مصدر سابق ، ص ١٢٦)
تلت ابوطليح اشتباكات اخري في المتمة والشبكات تكبدت فيها حملة الانقاذ خسائر فادحة ما بين جرحي وقتلي .. واشتدت المواجهات مع قوات الاحتلال بعد التعزيزات التي ارسلها الامام المهدي بقيادة الامير النور عنقرة ..وهكذا تحققت اهداف الثورة المهدية بتعطيل حملة الانقاذ التي تأخرت لتلعق جراحها وتدفن موتاها وسط أنين الجرحي البريطانيين !
وتناقلت بريطانيا أنباء موقعة “ابوطليحالخالدة .. فاستشاطت الملكة فكتوريا غضبا وسطرت خطابا شديد اللهجة للجنرال ولسلي قائد جيشها في السودان والذي عقدت عليه الامال لإنقاذ غردون .. عبرت فيه سخطها التام لما بلغها من أنباء صادمة عن عجز قواتها عن التقدم امام بسالة وتصميم السودانيين في مقاومة الغزاة .. وفي الأسبوع الثاني من يناير ١٨٨٥ كتب ولسلي المحبط لزوجته في بريطانيا ما هو نصه : ” انني اشعر بغاية الحنق والضيق من خطاب جلالة الملكة ( والذي أرفقه لك في هذه الرسالة) .. فمن النادر جدا ان تكتب الملكة خطابا مؤذيا كهذا لقائد عسكري مثلي في الميدان. لقد كانت كلماتها تعبر عن منتهي الفظاظة وعدم التقدير ! ولكن بما انها ملكة بريطانيا فإنني لا أستطيع ان اجادل جلالتها لذلك قررت ان أتوقف عن الكتابة والرد عليها ” .. ( نيكول : أوراق اللورد ولسلي ، خطاب بتاريخ يناير ١٨٨٥، مصدر سابق ، ص ٢٩٠ ) .
   اما جنوبا .. وتحديدا بداخل أسوار مدينة الخرطوم المحاصرة .. وعندما اشارت عقارب الساعة الي الحادية عشرة من مساء ٢٥ يناير ١٨٨٥ .. كانت انامل الجنرال غردون المرتعشة تختط اخر اسطر مذكراته .. والتي جاء فيها : ” اذا لم تصل القوات البريطانية علي وجه السرعة ، فان مدينة الخرطوم ستسقط في يد المهدي.. لقد فعلت كل ما بوسعي فعله من اجل شرف وكرامة بريطانيا … وداعا .. وداعا .. مخلصكم تشارلز غردون ” … وفي تمام الثالثة من صباح ٢٦ يناير ١٨٨٥ عقد الامام المهدي مجلس شوراه الأخير قبل تحرير الخرطوم مع الخلفاء وكبار الأمراء وخلص الاجتماع الي ضرورة الهجوم علي الخرطوم لتحريرها علي ضوء إصرار غردون علي عدم التسليم وحقن دماء الناس .. ولتتفرغ قوات الثورة المهدية لمواجهة حمله الانقاذ في الشمال .. وجمعت قوات المهدية للمهدي ليخاطبها قبل المعركة.. ويورد فيرغس نيكول في سفره ( مهدي السودان ومقتل الجنرال غردون) .. وصايا المهدي المشددة الاخيرة لجيش الثورة المتأهب لتحرير المدينة .. ” اذا نصركم الله .. الغردون لا يُقتل .. الفقيه محمد الامين الضرير لا يُقتل.. .. كل من استسلم و رمي سلاحه لا تقتلوه.. كل من أغلق باب بيته عليه لا تقتلوه ” .. ثم كبر المهدي بسيفه في اتجاه الخرطوم إيذانا ببدء الهجوم لتحرير عاصمة البلاد ..( نيكول : مصدر سابق ، ص ٢١٨ ) .. استطاعت قوات الامير النجومي والأمير ابوقرجة والأمير ود نوباوي احتلال الخرطوم في وقت وجيز .. وفي خضم هذه اللحظات التي عادة ما يصحبها الكثير من الانفلات الثوري الذي يصعب السيطرة عليه.. قتُل غردون خلافا لأوامر المهدي الصريحة بالحفاظ علي حياته .. وحدثت العديد من التجاوزات التي نهي عنها القائد وكبار الأمراء .. ويقول نيكول انه علي الرغم من ذلك فان المهدي وود النجومي كانا من الحرص بمكان علي حياة المدنيين .. وعندما دخل المهدي المدينة ظافرا وجه الامير احمد ود سليمان امين بيت المال .. بإرجاع كل امرأة من اهل المدينة الي اهلها او اي قريب لها قبل غروب الشمس ( نيكول: مصدر سابق ، ص ٢٢٣ ) .. وفي هذا الشأن أيضاً .. اصدر المهدي منشوره الشهير بعد تحرير الخرطوم :” ان النساء الخارجات من ققرة الخرطوم جميعا قد أحببنا ان يعطين لازواجهن ولا يجوز لأحد من أصحابنا وأحبابنا ان يتزوج منهن .. فذوات الأزواج يسلمن لازواجهن وكل من لا زوج لها تكون لدي امين مأمون( المقصود شخص محرم )   ويجري راحتهن.. فالحذر من التزويج لأحد من نساء ألقياقر المذكورة صغيرة او كبيرة .. ثيبا او بكرا ومن تزوج بواحدة من المذكورات بدون نظر حكم الله فهو الجاني علي نفسه والسلام ” .. ( ابو سليم : مصدر سابق، ص ٢٨٦-٢٨٧ ). وبوقوع الخرطوم في قبضة الثوار شرع الامام المهدي في تشييد العاصمة الوطنية ” ام درمان” وابتني لنفسه منزلا طينيا متواضعا وتبعه الثوار فأعلنت تلك اللحظات ميلاد السودان المستقل الموحد .
ثم بدأت مرحلة مطاردة جيش حملة الانقاذ البريطاني المنهزهم والذي مُني بالمزيد من الخسائر الدامية .. فسقط الجنرال الانجليزي الأبرز ” وليام أيرل” قتيلا في موقعة كربكان في فبراير ١٨٨٥ . وكتب ولسلي للورد هارينجتون وزير الدفاع البريطاني آنذاك ليصف حملة التعبئة الناجحة للثورة المهدية والتي أدت الي اشتعال الشعور القومي السوداني ووحدة ابناء الوطن في مواجهة الغزاة   : ” انهم ينظرون إلينا الان بكراهية عمياء.. فنحن في نظرهم كفار وغزاة جئنا الي بلادهم تلبية لرغباتنا الانانية ويعتقدون اننا ان انتصرنا عليهم .. سنأتي بحاكم اجنبي .. يسومهم عسفا وظلما ويفرض عليهم الضرائب الباهظة كما كان يفعل الباشوات المصريون”   ويعلق نيكول علي هذا الخطاب قائلا : ” لقد كانت القوات البريطانية بلا صليح ليقف الي جانبها في السودان “..   ( نيكول: خطاب ولسلي للورد هارينجتون وزير الدفاع البريطاني ١٨٨٥ ، مصدر سابق ص ٣٠٨)   .
وبانسحاب قوات جراهام من شرق السودان تحت ضغط عمليات عثمان دقنة العسكرية العبقرية الماكرة.. تم تحرير معظم أراضي السودان من اي قدم انجليزية وفي أواخر ابريل ١٨٨٥ رفع الامير عثمان دقنة تقريره للامام المهدي قائلا : ” لقد قذف الله الرعب في قلوب أعداء الله الانجليز بفضل ثبات الأصحاب وولوا الأدبار هاربين ” .. ( نيللاندز : مصدر سابق ، ص ١٥٠). ويعلق نيكول علي هذه الأحداث قائلا : ” ان حملة بريطانيا العسكرية في السودان التي فاقت تكلفتها السبعة ملايين من الجنيهات الاسترلينية قد انتهت الي الفشل التام ” ! .. وفي فبراير ١٨٨٥ كتب اللورد ولسلي قائد حملة الانقاذ لزوجته الليدي لويز ولسلي .. بمرارة..قائلا : ” لقد انتصر المهدي .. وها نحن نبدو جميعاً.. كالاغبياء !” .. ( The Mahdi has won , and we all look very foolish )   .. ( نيكول: مصدر سابق ، ص ٢٢٤ و٢٢٥).
ويحلل المؤرخ البريطاني والمحلل العسكري دونالد فيثرستون أسباب انتصارات الثورة المهدية علي جيوش الاستعمار.. حيث يرجع ذلك لملكات المهدي القيادية وتخطيطه العسكري المتميز المستمد من اطلاعه ودرايته التامة بتاريخ حروب الاسلام الأولي ومقدرته علي اختيار ما يناسب ظروفه من تكتيكات عسكرية منها ويصف عبقرية تكتيكاته العسكرية في مواجهة الجيوش البريطانية ..بكلمات قصار موجزات .. ” لقد كان قادرا علي الاستفادة من هذا الإرث في الصبر علي العدو والانتظار بتأن حتي تحين اللحظة المناسبة لتوجيه الضربة القاضية   .. لقد كان بارعا في الاستفادة القصوي من لحظات الارتباك الكامل في صفوف عدوه .. ان المرء منا ليجد قرارته العسكرية والسياسية المصيرية – في معظم الأحيان- مصحوبة بحدسٍ عبقري قلما يخطئ ” ثم يستطرد قائلا .. ” لقد كانت تكتيكات الانصار العسكرية تعتمد علي عنصري المفاجأة والصدمة .. والإحاطة الدائرية بالعدو من اتجاهين “.. ولا يخفي فيثرستون اعجابه الشديد بفكر القادة العسكريين للمهدية حين يقول عنهم : ” علي الرغم من عدم تلقيهم تدريبا عسكريا نظاميا الا ان تكتيكاتهم العسكرية والقتالية المتأصلة قد جعلت منهم مقاتلين رائعين”..   ( فيثرستون: الوقفة الاخيرة للجنرال غردون، Osprey Publishing ،أوكسفورد ، المملكة المتحدة ١٩٩٣ ) .. اما عن عبقرية الامير عثمان دقنة العسكرية فيقول المؤرخ البريطاني وليام رايت : ” من الممكن القول بان عثمان دقنة كان اكبر عبقرية عسكرية تكتيكية واجهتها الامبراطورية البريطانية في حروب الصحراء علي الإطلاق ! . لقد كان بارعا في الإبقاء علي تماسك جنوده .. يعرف جيدا كيف يقوم بالاختراقات العسكرية المباغتة الناجحة فيضرب مؤخرة المربع العسكري للعدو .. ويعرف جيدا متي ينسحب بقواته .. كان يفهم جيدا أهمية رفع الروح المعنوية لرجاله فيؤكد لهم ان الانجليز قد فروا وولوا الأدبار فيلهمهم ( اي رجاله ) مزيدا من الثبات والاخلاص في القتال . لقد كان دقنة رائعا في إلهاب حماس جنوده بالخطب الحماسية التي تستحسنها اذان الرجال قبل المعركة “.. ” William Wright: The Battle story , Omdurman 1898 , by William Wright ,The History Press , e-book, P64 ” .. ولعل هذه التكتيكات هي التي قادت السودانيين لانتزاع استقلالهم من المحتل عنوة واقتداراً .
أصداء انتصارات الثورة المهدية في العالم
في بريطانيا حلت اخبار الهزيمة المدوية التي تلقتها جيوش الامبراطورية التي لا تغرب الشمس في السودان ومقتل غردون .. كحلول الصاعقة تماماً !   وينقل المؤرخ البريطاني روبن نيللاندز ..كيف وثق اللورد بونسونبي سكرتير الملكة فكتوريا الخاص لهذه اللحظات حينما كتب ليصف حال الملكة فكتوريا عند تلقيها تلك الأنباء .. ” لقد كانت في حالة سيئة تماماً بعد سقوط الخرطوم وبدت كالمريض الذي كان طريح فراشه.. لقد كانت تتأهب للخروج للتو عندما أتانا تلغرافا يحمل الأنباء ..وعندها توجهت ( اي الملكة) الي مسكني الخاص كان باديا علي محياها الشحوب فوجدت زوجتي التي أفزعها منظر الملكة وهي بتلك الحالة حين خاطبتها وهي ترتعش : فات الأوان .. Too late !   ” .. ثم يستطرد نيللاندز .. ” لم تكن الملكة وحدها! .. عندما وصلت أنباء مقتل غردون للندن ..عمت حالة الحداد جميع أنحاء بريطانيا ونُكست الاعلام وأعلن ذلك اليوم كيوم حداد قومي وسرعان ما تحولت حالة الحزن العام الي غضب جارف موجه لرئيس وزراء بريطانيا جلادستون ” . ( نيللاندز: مصدر سابق ، ص ١٤٢،١٤٣ ).
وعلي المستوي الشعبي راجت تلك الاغنية الشعبية الحزينة عن مقتل غردون وهزيمة القوات البريطانية علي يد قوات الثورة المهدية بعنوان Too late to save him ..فصارت لحنا شعبيا معروفا يعزف في حانات لندن القرن التاسع عشر بأمسيات الانس أواخر الأسبوع ..
هناك في السودان غاب عنا ..غاب عنا
هناك .. طأطأت إنجلترا رأسها .. وانكسرت
من هنالك .. من هنالك ..
تفشي نبأ ارتعشت له قلوب كل البريطانيين ..
قُتِلَ بطلنا العظيم .. قُتِلَ بطلنا العظيم .
( من ارشيف الأغاني الشعبية البريطانية، National Library of Scotland،ادنبرة، نسخة الكترونية ٢٠١٢).
الجدير بالذكر ان حكومة جلادستون سقطت بعد اقل من أربعة اشهر بفعل احداث السودان والتي تلتها احداث سياسية اخري بأيرلندا . اما اللورد ولسلي قائد جيش الانقاذ البريطاني المنهزم فقد عوقب بالحرمان من قيادة اي قوة عسكرية الي حين مماته في ١٩١٣.
اما في الجانب الاخر من الجزيرة البريطانية .. فقد تلقي القوميون الأيرلنديون اخبار انتصارات الثورة السودانية علي بريطانيا باحتفاءٍ مشهود .. وطفقت صحافتهم في تخليد تلك الانتصارات ..فقد كانت الجزيرة الأيرلندية ما زالت ترزح تحت نير الاحتلال البريطاني حينما حررت المهدية السودان.. فكتبت صحيفة Waterford Daily Mail.. في ١٨٨٤ ” ان أمانينا الحقيقية هي ان لا يضع المهدي أسلحته الا بعد ان يحصل هو و رجاله المخلصون الأوفياء علي نعمة الحرية التي لا تقدر بثمن .. يا أيها المهدي ..يا أيها المهدي .. ان مبلغ آمالنا ان تقضي كل واحدة من هجماتك بالسيف علي عشرة من أعداء الحرية ” ..   اما صحيفة Irish World   فقد خصصت صفحاتها الرئيسية بالكامل لاخبار السودان .. وفي ٧ فبراير ١٨٨٥ كتبت ذات الصحيفة : “ان الثورة السودانية الباسلة تستحق التعاطف الكامل من كل أصدقاء الحرية في شتي بقاع العالم”.. (الارشيف الالكتروني للصحافة الايرلندية ١٨٨٤-١٨٨٥ ) . ويقول البروفيسور مايكل دي ني في سفره القيم ” أسرعوا بالمهدي .. الصحافة الأيرلندية وصراع الامبراطورية في السودان( ١٨٨٣-١٨٨٥)”..” لقد عملت الصحافة الأيرلندية ذات الميول القومية علي تصوير المهدي و   وتقديمه كمناضل وبطل قومي سوداني في ثورته ضد الامبراطورية البريطانية.. بينما عملت علي وصف رجال المهدية كمحاربين من اجل الحرية اكثر من ميلها لوصفهم كرجال دين لهم قداستهم “.
اما عن صدي المهدية في العالم الاشتراكي الذي كان في مرحلة التخلق آنذاك ..فقد كتب فردريك انجلز مفكر الاشتراكية الأبرز عن “المهدي .. الزعيم السوداني الذي جابه الانجليز ظافرا في الخرطوم ” .. ( انجلز : مجلة العصور الحديثة ، المجلد 1 ، العدد 22 ، 1894) . كما كتب كارل ماركس لصديقه انجلز في أواخر أيام حياته حين كانت جيوش الثورة المهدية تستعد للزحف من كردفان نحو الخرطوم في ١٨٨٣ : ” إن الأخبار التي تأتينا من السودان، في هذه الأيام، أخبار مثيرة للفكر، وإنها ستدفع بنا إلى أن نحيل النظر في مجمل بنية المذهب الشيوعي، الذي ندعو إليه، وستجبرنا على إعادة التأمل في حديثنا عن أن الدين إنما هو مجرد إفراز للوضع الطبقي،” ثم يستطرد قائلا …” فإن الدين الإسلامي، بهذه الصيغة الثورية المهدوية المتفجرة في السودان، أصبح، وسيضحى وقوداً للثورة العالمية ضد الإمبريالية” .. ( قراءة عصرية في منشورات المهدية ، الدكتور محمد وقيع الله، ٢٠١١ ) .
اما المؤرخ و البروفيسور الروسي سيرجي سمرنوف فقد كتب عن تحرير الخرطوم قائلا .. ” ان الثورة المهدية وان كانت حركة دينية لدي نشوئها الا انها أضحت بعد انتصارها علي حملة هكس و استيلائها علي الابيض وحصار وتحرير الخرطوم ، ثورة وطنية تقدمية ضد الاستعمار البريطاني والحكم التركي المصري وعملائه من كبار الإداريين مثل غردون و بيكر وأمين ولبتون وسلاطين وغيرهم ” .. كما يذكر سمرنوف ان ” عملية حصار وتحرير الخرطوم- المركز الاقتصادي والسياسي للبلاد – جاءت تتويجا لسلسة انتصارات الشعب السوداني الساحقة علي الإمبرياليين البريطانيينويصف حراك الثورة المهدية ” بالحركة التقدمية التي وحدت ملايين السودانيين للكفاح من اجل الاستقلال في مواجهة الاستعماريين ”   .. ( سمرنوف : المهدية من وجهة نظر مؤرخ سوفييتي ، دار الجيل ، بيروت   ، ترجمة هنري رياض ، ١٩٩٤.. ص ٨، ص ٧٦ ) .
اما عن أصداء تحرير الخرطوم و انتصارات الثورة السودانية علي بريطانيا في شمال الوادي .. فقد كتب احمد عرابي باشا قائد الثورة العرابية من منفاه في مدينة كلمبو بجزيرة سريلانكا   في ٢ مارس ١٨٨٥ خطابا الي الليدي آن بلنت ( Anne Blunt ) .. جاء فيه : ” لم تكسب بريطانيا شيئا من محاولتها غزو السودان .. لقد خسرت كل شئ .. خسرت اسمها وسمعتها و خسرت   كل المسلمين .   لقد فقدت بريطانيا غردون وستيوارت وهكس و أيرل وكم وكم غيرهم من الضباط البريطانيين . كما فقدت ايضا تعاطف كل القلوب بسبب حربها علي ثورة التحرر في السودان .. ان السودانيين الشجعان اخذوا بالثأر لاخوانهم المصريين وحموا بلادهم ضد الغزاة ومنهم رجال يفضلون ان يتجرّعوا كأس الموت علي ان يروا مستعمرا دخيلا عليهم داخل حدودهم . لقد بايع الشعب السوداني المهدي بالملايين علي الموت من اجل الحرية و كلما ازداد العدوان الانجليزي عليهم   كلما ازدادت قوتهم “.. ( ارشيف الصحافة البريطانية ، صحيفة The Western Daily Press ، عدد بتاريخ ٣ ابريل ١٨٨٥ ) .
وتتوافق رسالة احمد عرابي مع ما خلص اليه البروفيسور ريتشارد ديكميجيان و مارغريت وزموريسكي حيث قالا : ” لقد كان عرابي باشا من ابرز المتضامنين مع الثورة المهدية ضد البريطانيين وحلفائهم من الأتراك العثمانيين .. وقد عمل المهدي علي مبادلته بغردون قبل مقتل الأخير في الخرطوم .. كما كان ثناء الشيخ محمد عبده علي محمد احمد المهدي وحركته ظاهرا ومعروفا تماماً كمجاهرة الشيخ المصلح جمال الدين الافغاني بمساندته للثورة ايضا .. ولو قدر للمهدي ان يعيش اكثر   .. لكان من الممكن جدا ان تشكل الحركة المهدية تهديدا حقيقيا علي سيطرة بريطانيا علي مصر “.. (ريتشارد ديكميجيان و مارغريت وزموريسكي: مصدر سابق ، ص ٢٠٩)   ..   ومع توالي انتصارات الثورة المهدية في السودان كتب جمال الدين الافغاني   ثلاثة مقالات نارية باللغة الفرنسية في صحيفة ( L intransigent )الفرنسية   .. تعبر   في مجملها عن اعجابه الشديد بالثورة التحررية السودانية وقائدها .. بل وانه من فرط اعجابه بالمهدي فقد ادعي ان المهدي كان تلميذه في الازهر!   .. ( د. علي شلش: جمال الدين الافغاني بين دارسيه، دار الشروق ، القاهرة ، ١٩٨٧، ص ١٢٢ ) .. واتبع ذلك الافغاني بمقال مطول عن وصول أنباء انتصارات الثورة المهدية لقارة اسيا القصية .. ” وردت برقية من تاشكند( طشقند) إلى جريدة الساندر الإنجليزية مفادها أنه حصل اضطراب عظيم في أفكار المسلمين سكنة بخارى عندما سمعوا بانتصار أعراب السودان وظفرهم الأول وظهر فيهم داع جديد وهو الشيخ محمد احمد صاحب الحركة المهدية يحث على الحرب ومقاتلة الذين ينتهبون الأراضي الإسلامية لتوسيع ممالكهم” .. الي ان يقول ” أن الدعوة المهدية في السودان لهذه الأوقات التي قام المسلمين فيها بأشباه الحوادث الماضية ستدعو إلى حركة عامة يصيح منها الشرقي بالغربي ويصعب على الإنجليزي وهو في مجراها أن يتنكب عنها دون ان تعروه هزة من مفزعاتها “.. ( جمال الدين الافغاني : مجلة العروة الوثقي، الاعداد من ١٨٨٤- ١٨٨٥، نسخة الكترونية ) .
رحم الله ذكري هؤلاء الرجال البواسل فقد حرروا الوطن بوحدتهم واتفاق كلمتهم وزلزلوا عرش امبراطورية بريطانيا التي لم تكن تغرب عنها الشمس .. فمتي يعود هذا الوطن حرا ابيا كما كان !؟
(مقال للاستاذ الصحفي : الصادق محمد سالم)
(حصار وسقوط الـخرطوم 26 يناير 1885م)
(اخر لحظة )
(رأي: الصادق محمد سالم)

تاريخ شعب نفخر به ونفاخر
لم يكن محمد أحمد المهدي رجلاً عادياً بل كان رجلاً فذاً يتصف بصفات
جعلته زعيماً دينياً ووطنياً وقائداً عسكرياً ورجل دولة تقي وورع زاهد
عرف عنه التأمل والخلوات إلى نفسه حفظ القرآن وتأدب بأدبه،اتصف
بالبساطة والسماحة والخطابة وقوة الشخصية والمقدرة التعبوية
والكفاءة القتالية تجلت في المعارك التي خاضها باختيار الأرض
والوقت كما حصل في شيكان وأبا وأسلوب الحصار في الأبيض
والخرطوم، قاد الأمة السودانية في أحلك وأصعب الظروف بنى
للسودان مجداً وتاريخاً نفخر به ونفاخر. من جانب آخر «غردون»
الذي قبل المغامرة المميتة عندما بدرالاقتراح بوجوب ذهابه إلى
السودان، ففي المرة الأولى اعترض «كرومر» على تعيين غردون
للمهمة للسودان حيث أنه غير واثق من غردون بأداء المهمة. ولكن
غردون ـ الذي نجح نجاحاً باهراً بالصين وخدماته السابقة في
السودان ومعرفته للسودان من قبل ـ اقتنع بأن ينفذ الجلاء بسلام
ويقيم علاقات حسنة مع المهدي، وأرسل للمهدي برسالة ليعينه
سلطاناً على كردفان وآمراً بإطلاق السجناء الأوربيين وأرفق مع
خطابه كسوة شرف حمراء وطربوش، ولكن الشخص المهداة إليه
كان زعيماً دينياً سيداً لنصف السودان.

رد عليه المهدي بخطاب حمل معاني عظيمة «اعلم أنني المهدي
المنتظر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأني لست بحاجة
للسلطة ولا كنوز الدنيا وغرورها فما أنا إلا عبد من عبيد الله أَهدِي
إلى الله،أما هديتك ـ جزاك الله حسناً وهداك إلى الحق ـ مردودة لك».

كانت الخرطوم العاصمة السياسية للحكم التركي غير مأهولة بالسكان
وتم اختيارها كعاصمة لمزاياها الطبيعية والجغرافية فهي مركز السلطة
والقيادة ،فكر المهدي استراتيجياً وتعبوياً وتكتيكياً للزحف نحو الخرطوم
واحتلالها وبذلك تنتهي سيطرة الأتراك ويقيم دولته الإسلامية وتسقط
السيادة على كل الأقاليم ،وبذلك يكون قد وصل للهدف الاسترايتيجي
لانهاء حكم المستعمر وقيام الدولة الإسلامية.

ميدان المعركة «الخرطوم»:
الخرطوم هدف المهدي الأكبر تقع بين النيلين الأزرق والأبيض، يلتقيان
في زاوية حادة حيث انحصرت الخرطوم في تلك البقعة بين النيلين
والتي أقام عبد القادر حلمي تحصينات قوية وقام بتحسين دفاعاتها
وحفر خندقاً عميقاً بعرض 12 متر مليئاً بالماء بين النيل الأزرق والأبيض
وبذلك أحاط المدينة بالمياه من كل جانب وأطمأن إلى تأمينها تأميناً كاملاً.

خطة الحصار:
كان الحصار على ثلاثه محاور ،استخدم الإمام المهدي براعته القتالية
والتكتيكية بمهارة فائقة أصبحت تدرس بالمدارس والمعاهد العسكرية.

المرحلة الأولى:
العزلة عن العالم الخارجي وقفل الطرق البرية والبحرية والتي تربط
الخرطوم بالعالم الخارجي فأمَّن الطريق الشرقي لسواكن عبر البحر
الأحمر وطريق بربر المتمة شمالاً والذي يربط الخرطوم بمصر وطريق
كسلا مصوع والذي يربط الخرطوم أيضاً بالحبشة مع طريق القضارف
القلابات.

المرحلة الثانية:
عزل مدينة الخرطوم عن المناطق المجاورة باحتلال أم ضوبان
والجريف شرق والجزيرة إسلانج شمالاً والكلاكلة وأبوسعد جنوباً.

المرحلة الثالثة:
الاستيلاء على المدينة أما باستسلامها أو دخولها قسراً.

الدفاع عن الخرطوم:
كانت الخرطوم موقعاً حصيناً وزاد من تحصينها بناء حائط حول المدينة
بثلاث بوابات بوابة الكلاكلة وبوابة المسلمية وبوابة بري، عليها مراكز
نيران لصد أي هجوم على المدينة وحُفِر الخندق الذي يربط بين النيل
الأزرق والأبيض وعرضه 12 متر وبداخله نطاق من الألغام ضد الأفراد
لتأخير وصد القوات المهاجمة مع مواقع غرست فيها بعناية فائقة
«
الضريسة» وهي قطع حديدية من ثلاثه رؤوس ذات أسنان حادة.
القوات المشاركة في الدفاع عن الخرطوم: خمسة أورطة جنود
نظاميين وأعداد من «الجنوب والباشبوزق وشايقية وأتراك».

سير المعركة:
تم تنفيذ الحصار بمراحل ثلاث:
أـ قفل طريق سواكن بقيادة الأمير «عثمان دقنة»
بعد أن دارت معارك ضارية.
ب ـ طريق كسلا مصوع وتولى أمره «الشيخ مصطفى»
بمساندة بني عامر والحلنقة والهدندوة.
ج ـ طريق القضارف القلابات وتولى أمره محمد أرباب والحسن
عبد الواحد. تمت هذه المراحل بنجاح تام وعزلت الخرطوم عن
العالم الخارجي تماماً.

المرحلة الثانية:
عزل المناطق المجاورة للخرطوم حيث تولى «الشيخ العبيد» حصار
الخرطوم من جهة الحلفايا شمال أم درمان من الضفة الشرقية
للنيل و«العباس بن الشيخ العبيد» حصار الجريف غرب بعد عبوره
للنيل الأزرق والشيخ «ودأم حقين» من خور شمبات غرب النيل
شمال أم درمان والشيخ «أبو ضفيرة» من أبو سعد جنوب أم درمان
والشيخ «البصير» من الحلاويين مع الشكرية تحت قيادة الشيخ
«
عبد الله عوض الكريم أبوسن» لحصار الخرطوم جنوباً وعزلها على
الجزيرة، كما عين المهدي «أبو قرجة» قائداً لجيش الحصار ومنسقاً
عاماً بين القوات وبدأ بالعدائيات من الجريف.

المرحلة الثالثة:
إحكام الحصار المباشر وتضييق الخناق وإسناد بالأسلحة النارية بقيادة
«
عبدالرحمن النجومي» كما وزعت القوة بإحكام شديد على خط التماس
بالاتجاه الجنوبي ،في ذلك الوقت تحرك المهدي بجيشه ولكبر الجيش
تحرك على عدة محاور، وكان أبرز المحاور محور أبو سعد، وقتها أرسل
المهدي خطاباً لغردون يطلب منه التسليم فرفض غردون طلب المهدي
في ذلك الوقت وأثناء الحصار عانت الخرطوم كثيراً من نقص في المؤن
وقام غردون بترحيل النساء وكبار السن والأطفال لأمدرمان وفي ذلك
الحين ترامت للمهدي برئاسته بأم درمان أنباء حملة الانقاذ وهنا كان
القرار الصائب الحكيم بالاقتحام قبل وصول حملة الانقاذ.

الاقتحام:
قاد الأمير ود النجومي الاقتحام بستين ألف مقاتل انتشر عشرون في
مواجهة الدفاع وتسللت باقي القوة عبر فتحة ضيقة عرضها 500 ياردة
حددها بدقة مجاهد من الأنصار«استخبارات المهدي» وانقسمت القوات
إلى قسمين القسم الأول مهمته إبادة جند الحكومة من الخلف والقسم
الثاني هجوم مباشر رأساً إلى السراي مقر قيادة غردون كان الاقتحام
فجر الإثنين 26/يناير/1885م وعند الضحى انكسرت شوكة المقاومة
وسقطت الخرطوم وبسقوطها سقط الحكم التركي في السودان،
وبسقوط الخرطوم انتهت حقبة من الزمان فاتحة المجال للتاريخ
ليسجل أمجاد أمة، ونظم الشعراء وشاعر المهدية عمر البنا رائعته.

الحرب صبر واللقاء ثبات ** والموت في شأن الإله حياة
الجبن عار والشجاعة هيبة ** للمرء ما أقترنت به العزمات

(وكتذكير فاراضي ام ضوا بان و الجريف و العيلفون وسوبا كانت باستقبال جيوش المهدي استقبال الفاتحين وساعدوهم بالرجال و المؤونة ، وحتى قائدهم كان قريبا منهم ... الشيخ الجليل العباس ابن الشيخ العبيد ود بدر رحمهم الله جميعا)
(نعتذر لنقلنا المقالين ... ولكن أرضي تحتاج ليذكرها التاريخ ... وسيكون في المقال القادم ان شاء الله وصف الجريف وبدايتها وأحيائها )


اللهم أرحم شهيدي الجريف شرق ... شهيدي الأرض و العرض ... شهيدي الدم و الرحم ...
في رحاب الله الشهيد أخي (محمد عبيد) والشهيدة أمي (منى النخلي) ... اللهم أجعلهم في ركاب الشهداء و الصديقين و الصالحين ...  رحمهما الله رحمة واسعة وأسكنهم فسيح جناته وسقاهما من كوثر المصطفي صل الله عليه وسلم شربة لا يظمآن بعدها أبدا ...

وأعود اذكر بقول جدي الراحل مصطفي علي عوض الكريم الشهير بالغول عليه رحمة الله ... (مهما قالوا مهما كتبوا .. فالجريف من رحم واحد) ...

محمد باعـــــــــــــــــــــو
19/9/2016