الأربعاء، 9 نوفمبر 2016

الصوفية و المجاز ... الفهم الخطأ للصوفية من الآخرون



بسم الله و الحمد لله

الصوفـــية و المجـــــاز
 (الفهم الخطأ من بقية الملل و النحل)
(التصوف ليس إدعاء)

سؤال هاااام في التصوف ؟؟؟
ما قولكم فيمن يدعي تصرف الغوث والأولياء والأقطاب و الأبدال في الكون؟
أو ليس ذلك مشاركة لله عز وجل في خلقه؟
أوَ ليس ذلك شركا" أكبر مخرجاً من الملة؟
فإن كنتم تعتقدون ذلك هلكتم، وإن لم تكونوا تعتقدونه فتبرؤوا ممن يزعم ذلك!.
الجواب..
أولا :
الغوث والأقطاب والأبدال مصطلحات يستعملها الصوفية ولا مشاحنة في الاصطلاح.. بعضها ورد في أحاديث نبوية كحديث الأبدال : يروى مرفوعًا من حديث أنس رضي الله عنه عند الطبراني في الأوسط قال :
قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لن تخلو الأرض من أربعين رجلاً مثل إبراهيم خليل الرحمن فبهم يسقون، وبهم ينصرون، ما مات منهم أحد إلا أبدل الله مكانه آخر"، قال سعيد: وسمعت قتادة يقول: لسنا نشك أن الحسن منهم، قال الحافظ الهيثمي : "إسناده حسن". وبهذا كان يقول السلف:
وقد روى الإمام أحمد في مسنده حديثًا فقال: عن عفان، حدثنا موسى بن خلف وكان يُعدُّ من الأبدال، فهذا إقرار منه على صحة وجود الأبدال.
قال الشيخ عبد الله بن الصديق رحمه الله في رسالته "الإعلام بأن التصوف من شريعة الإسلام" :" وقال ابن أبي الدنيا: حدّثنا أبو حاتم الرازي –الإمام العَلَم- حدّثنا عثمان بن مطيع حدّثنا سفيان بن عيينة قال: قال أبو الزناد -أحد شيوخ الإمام مالك- : لمّا ذهبت النبوة -وكانوا أوتاد الأرض- أخلف الله مكانهم- يعني الأنبياء- أربعين رجلاً من أُمّةِ سيدنا محمدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم، يُقال لهم الأبدال لا يموت الرجل منهم حتى يُنشِئَ اللهُ مكانه آخر يخلفه، وهم أوتاد الأرض، قلوب ثلاثين منهم على مثل يقين إِبراهيم عليه السلام، لَمْ يفضلوا الناس بكثرة الصلاة ولا بكثرة الصيام، ولا بحُسن التخشّع ولا بحُسن الحلية، ولكن بصدق الورع، وحُسن النية، وسلامة القلب، والنصيحة لجميع المسلمين ابتغاء مرضاة الله، بصبرٍ حليمٍ، وقلبٍ رحيمٍ، وتواضعٍ في غير مذلّة، لا يلعنون أحداً، ولا يُؤذون أحداً، ولا يتطاولون على أحدٍ تحتهم ولا يُحَقّرونه، ولا يحسدون أحداً فوقهم، ليسوا بمتخشّعين ولا متماوتين ولا معجبين، لا يحبون لدنيا، ولا يحبون الدنيا، ليسوا اليوم في وحشة، ولا غداً في غفلة."
ثانيا :
أما المشيئة المطلقة والتصرف المطلق فهو لله وحده.. لا شريك له في ملكه ولا معين ولا ناصر ولا صاحبة ولا ولد.. فلا تحده حدود ولا تعيقه قيود فهو الواحد الأحد الفرد الصمد الخالق البارئ المصور
أما التصرف المجازي فهو لكل المخلوقات بحسب الإذن الإلهي.. فهي تتصرف -إيجادا وإمدادا- بأمر الله وبقدرة الله وليست استقلالا عن الله.. "وما تشاءون إلا أن يشاء الله".. كما تتصرف الملائكة في الكون "وهم من خلق الله"، والريح تجري بأمر سيدنا سليمان.. وسيدنا عيسى عليه السلام وصفه الله بأنه يخلق ويحي الموتى ويعلم ما يدخر الناس في بيوتهم وهو غيب.. فهي كلها تصرفات بإذن الله : نؤمن بها ولا تخدش أيماننا وتوحيدنا.. ومن قال بغير ذلك فهو جاهل بالتوحيد..
وللشيطان وأوليائه تصرف: فهذا إبليس يوسوس لملايين الناس في كل الأرض وكل الوقت ويجري فيهم مجرى الدم،.. هل إقرارنا بتصرف إبليس شرك بالله؟؟؟
وهؤلاء السحرة وما يفعلون...
وكما ورد في الكثير من النصوص تصرف الدجال.. يحي ويميت وينبت الزرع ويفجر الماء.. هل إقرارنا بالدجال وتصرفه شرك بالله..
فلا علاقة لموضوع التصرف بالإلوهية..
أما من نسب لأي مخلوق تصرفا - صغيرا كان أو كبيرا- بغير إذن الله استقلالا.. فهو مشرك كافر بالله..
المدبرات:
يقول الحقّ تبارك وتعالى: ((وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ( (1وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ( (2 وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ( (3 فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ( (4فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ( (5)) سورة النازعات . ففي الآيات إشارة كما قال الشيخ ابن عجيبة رحمه الله في تفسيره (البحر المديد في تفسير القرآن المجيد). إشارة إلى صفات النّفوس، وحال سلوكها. فأنفس العُبّاد: نازعات عن الحظوظ والشهوات. غرقاً في التجرّد إلى العبادات. بأنواع الطاعات. وأنفس الزُهّاد: ناشطات عن الدنيا وأهلها. فراراً إلى الله نشطاً، وأنفس العلماء الجهابذة، سابحات بعقولها في أسرار العلوم، فتستخرج من الكتاب والسنّة درراً ويواقيت، يقع النفع بها إلى يوم الدين، وأنفس الأولياء العارفين : سابقات إلى الله بأنواع المجاهدات. والسير في المقامات، حتى أفضت إلى شهود الحقّ عياناً سبقاً، وأنفس الأقطاب والغوث : مدبّرات أمر الخلائق. بقسم أرزاقها وأقواتها ورتبها، نيابة عن الحقّ، بالتصرّف في أمر الكون، وهو مقام القطبانيّة، وهذا من الكرامات التي أكرم الله بها خواصّ أوليائه. لا معقّب لحكمه. ولا رادّ لقضائه. يهب لمن يشاء ما يشاء. ويمنع ما يشاء. لا يكون إلا ما يريد. ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
فنسبة الفعل للعبد نسبة مجازيّة. أمّا الفاعل فهو الله. والمتصرّف هو الله. والآمر هو الله. والمحرّك لكلّ ساكن هو الله وحده. لا شريك له. وهو القاهر فوق عباده. وهو الحكيم الخبير.
وكلّ الذي يقال عن الأولياء والأقطاب. من تصرّفهم في الكون. هو من باب المجاز فقط. وإنّما الفاعل في الحقيقة هو الله. أفعال أجراها الله على أيديهم كرامة لهم وتشريفاً. وليس ذلك خارجاً عن إرادة الله تعالى. بل تصرّف الأولياء الصالحين. يأتي وفق الإرادة والمشيئة الإلهية. كما قال سيدي محمّد أبو المواهب الشاذلي رحمه الله : التّصريف هو أن يعطي الله للكامل من الأولياء. إذنه فيما قلّ أو جلّ من المضارّ والمنافع، ومن دونه يتصرّف بالإذن بحسب النوازل والوقائع. ومن أعطي التّصريف لا يخرج عن مشيئة الفاعل بالأختيار، ومن زعم غير ذلك حجبت عنه المعارف والأنوار.
فكلّ الأفعال التي يفعلها الإنسان في حياته اليومية. فإنّ نسبتها له نسبة مجاز فقط. قال ابن عطاء الله. رضي الله عنه في حكمه: من نعم الله وفضله علينا. أنّه يفعل الأفعال وينسبها إلينا. والمجاز من لغة العرب. وتكلّم به القرآن الكريم. فقد قال الله تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) الزمر (42) . فقد نسب الله هنا الفعل إلى نفسه حقيقة. وفي آية أخرى قال: ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) السجدة (11) فنسب الفعل هنا إلى ملك الموت مجازا". وتارة ينسب الفعل له. ولأحد مخلوقاته. كما في قوله تعالى: ((كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ )) المجادلة (21) . فنسب الفعل هنا لنفسه من باب الحقيقة. ولرسله من باب المجاز. وقد قال بالمجاز الأنبياء والرسل. كما ورد عن سيّدنا إبراهيم عليه السلام. حينما قال((وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ )) الشعراء (80) . فنسب الفعل إلى نفسه مجازا. ولم يقل إذا أمرضني الله حقيقة. مع أنّه لا فعل لأحد مع الله. وقال بالمجاز الملائكة كذلك. قال تعالى على لسان سيّدنا جبريل عليه السلام: ((قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا)) مريم (19) . فهل سيّدنا جبريل هو الذي يهب الغلمان؟ أم الله سبحانه وتعالى؟ والصواب أنّ الفاعل حقيقة هو الله تعالى. وإنّما نسبة الفعل إلى الملك من باب المجاز فقط.
إذا عرفنا هذا وفهمناه. عرفنا أنّنا إذا تكلّمنا عن الأولياء الصالحين والأقطاب. من تصرّفهم أو جريان الأرزاق على أيديهم أو غير ذلك. فهي من باب المجاز فقط. ففي صحيح مسلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((تسمّوا باسمي، ولا تكنّوا بكنيتي، فإنّما أنا قاسم أقسم بينكم)). فمن هو القاسم الله أم هو النبي صلى الله عليه وسلم؟ فنسبة القسمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسبة مجازية. والأولياء الصالحون رجال عبدوا الله تعالى حقّ عبادته فأكرمهم بكرامات. وخصّهم بمزايا لا يمكن لأحد إنكارها. كما لا أحد يستطيع أن يحدّد إكرام الله لهم. والشواهد والأمثلة على ذلك من الكتاب والسنّة كثيرة.
فمنها ما أورد لنا القرآن الكريم عن قصّة سيّدنا سليمان عليه السلام. فكان متصرّفاً في الكون. فكانت الريح تجري بأمره غدوّا وعشيّا. ويأمرها فتمتثل لأمره. وسُخّر له الجنّ يفعلون له ما يشاء. قال تعالى في سورة سبأ : (( وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ(13)  ))
وكان عليه السلام يكلّم الطّير والنّمل والدوّاب. وأوتي ملك عظيماً. وكان يأمر الطيور بما شاء وتستجيب إلى أمره. ويعذّب من يشاء إذا لم يطع أوامره. قال تعالى في سورة النمل: ((وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17))). أليس هذا تصريف في الكون؟ نعم قد صرّفه الله في الكون ولكن بإذنه سبحانه وتعالى.
وقد أكرم الله أمّة سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم. بأن جعل فيها من يأمر الريح فتمتثل أمره. كرامة له. كما نقل عن سلطان العلماء الإمام العزّ بن عبد السلام رحمه الله. أنّه قال في حروب المسلمين مع الفرنجة الصليبيّين : يا ريح خذيهم. فأخذتهم الريح. حتى قيل: أنّ الله لم يزل يكرم هذه الأمّة المحمّدية. حتى كان منها من سخّرت له الريح. كما في طبقات الشافعية.
وأخبرنا القرآن الكريم كذلك. عن قصّة الذي عنده علم من الكتاب. وهو آصف بن برخيا. الذي كان مع سيّدنا سليمان عليه السلام. وأنّه أتى بعرش بلقيس من اليمن إلى الشام قبل ارتداد الطرف. أي في ثوان معدودة. قال تعالى عن هذه القصّة في (سورة النمل:  ((قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴿38 قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ﴿39 قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَـذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴿40)). ولنتأمّل أيّها المسلمون قول آصف بن برخيا: ((أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ )) ، فقد أوجد سيّدنا آصف عرش بلقيس وأعدمه من محلّه دون أن يتحرّك! ومع العلم أنّ الإيجاد والإعدام من صفات الله تعالى فقط. ولكنّ الله يأذن لمن يشاء من عباده. ويحكم بما يريد. فهل نستطيع أن نقول بأنّ سيّدنا آصف أشرك بالله حينما نسب الإتيان بعرش بلقيس لنفسه؟ حاشا وكلاّ. فإنّ الله تعالى صرّفه في كونه، وأعطاه أسمه الأعظم. الذي إذا دعي به أجاب. وإذا سئل به أعطى.
وكذلك في القرآن قصّة العبد الصالح. وهو سيّدنا الخضر عليه السلام. أكبر شاهد ودليل. فكان الخضر يتصرّف في الكون يميناً وشمالا. فخرق السفينة. وقتل الغلام. وبنى جدار اليتيمين. ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ) الكهف    {82} وقال بعد ذلك: ((وما فعلته عن أمري)). فدلّ على أنّ الله قد جعل له تصريفاً في كونه. وأمره بفعل ذلك. وإلاّ فلماذا يرسله الله ليفعل تلك الأشياء؟ ألم يكن الله قادراً على أن يفعلها وحده؟ ألم يكن قادراً على تكليف الملائكة لإنجاز هذه المهامّ؟ نعم. يفعل الله ما يشاء ويختار. وعن قصّة الخضر هذه. قال فيها بعض العلماء العارفين: إنّ تصرّف سيّدنا الحضر كان أمر باطناً لا ظاهراً. وإلاّ لما كان رضي أصحاب السفينة للخضر أن يخلع من سفينتهم الألواح ليفسدها لهم. وهم ينظرون! ولم يحك لنا القرآن أيّ ردّ فعل لأصحاب السفينة. فدلّ ذلك على أنّ سيّدنا الخضر تصرّف فيها باطناً وهم لا يشعرون. وكذلك أمر قتل الغلام. وبناء الجدار. على هذه الوتيرة.
وكذلك قصّة سيّدنا عيسى عليه السلام. من أنّه كان يحي الموتى. ويبرئ الأكمه والأبرص. ويخبر الناس بما يدّخرونه في بيوتهم. ويخبرهم بما طعموا من قبل. وإلى غير ذلك من الأفعال التي لا يفعلها إلاّ الله تعالى. فإذا كانت في حقّ سيّدنا عيسى معجزة. كانت في حقّ الوليّ كرامة. كما نصّ على ذلك العلماء.
وكذلك ما روي عن أمير المؤمنين سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأمره لنيل مصر أن يفيض. ففاض واستجاب لأمره. قال إمام الحرمين رحمه الله في كتابه الشامل: أنّ النّيل كان في الجاهلية لا يجري حتّى يلقى فيه عذراء في كلّ عام. فلمّا جاء الإسلام وجاء وقت جريان النّيل فلم يجر. أتى أهل مصر عمرو بن العاص فأخبروه أنّ لنيلهم سنّة وهو لا يجري حتى يلقى فيه جارية بكر بين أبويها ويجعل عليها من الحلل والثياب أفضل ما يكون. فقال لهم عمرو بن العاص رضي الله عنه: إنّ هذا لا يكون. وأرى الإسلام يهدم ما قبله. فأقاموا ثلاثة أشهر لا يجري قليلا ولا كثيرا. حتى همّوا بالجلاء. فكتب عمرو بذلك إلى عمر بن الخطاب. فكتب إليه عمر: قد أصبت إنّ الإسلام يهدم ما قبله. وقد بعثت إليك بطاقة فألقها في النيل. ففتح عمرو البطاقة قبل إلقائها. فإذا فيها: من عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر. أمّا بعد: فإن كنت تجري من قبلك فلا تجري. وإن كان الله الواحد القهّار هو الذي يجريك. فنسأل الله الواحد القهّار أن يجريك. فألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب. وقد تهيّأ أهل مصر للجلاء والخروج منها. فأصبحوا وقد أجراه الله تعالى ستّة عشر ذراعا في ليلة.
قد يقول المعترض: إذا كان الأولياء الصالحون يتصرّفون في الكون. فماذا تركوا لله تعالى أن يفعله؟
الجواب من وجهين.
فالوجه الأوّل: أنّ هذه الأفعال هي حقيقة لله تعالى. وهو الذي فعلها. ولم يكن لهم إلاّ ظهورها على أيديهم فقط. فهم سبب. والله المسبّب. فلا مكان للإعتراض إذا.
الوجه الثاني: لنسأل هؤلاء المعترضين عن تصريف الأولياء الصالحين سؤالاً: قد ورد أنّ سيّدنا جبريل عليه السلام هو الموكّل بإنزال الوحي. وكذلك بعض العذاب على أهل الأرض. وكان قد خسف بقوم سيّدنا لوط عليه السلام. وسيّدنا ميكائيل موكّل بالأرزاق وإنزال الأمطار. وهناك ملك موكّل بالجبال. لو أمرها لأطاعته. وكان قد استشار النبيّ صلى الله عليه وسلم في أن يطبق الأخشبين على من كذّبه. فرفض الحليم صلى الله عليه وسلم. وأنّ سيّدنا عزرائيل هو الذي يقبض الأرواح. وأنّ سيّدنا إسرافيل هو الذي ينفخ في الصّور ليقوم الناس يوم البعث. وغير ذلك من أفعال الملائكة الكثيرة. قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (فالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) النازعات ﴿  5 . قال علي، ومجاهد، وعطاء، وأبو صالح، والحسن، وقتادة، والربيع ابن أنس، والسدي: هي الملائكة. زاد الحسن: تدبّر الأمر من السماء إلى الأرض. يعني: بأمر ربّها عزّ وجلّ. ولم يختلفوا في هذا.
والسؤال الآن: ماذا ترك هؤلاء الملائكة لله تعالى ليفعله؟ وهل هذا تصريف مع الله؟ أم تصريف بإذن الله؟
إنّ ما يظهر على أيدي الأولياء والصالحين من كرامات وتصريف وغير ذلك من خوارق العادات. فكلّ ذلك على الله يسير. فالفاعل هو الله حقيقةً. قال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) الصافات ((96 وإنما كان ظهورها على أيديهم تشريفاً وتكريماً. قال تعالى: ((يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّه ذُو الْفَضْل الْعَظِيم)). وكيف لا والحديث القدسي يقول في حقّهم: ((كنت سمعه الذي يسمع به. وبصره الذي يبصر به. ويده التي يبطش بها. ورجله التي يخطو بها. ولئن سألني لأجيبنّه. ولئن أستعاذني لأعيذنّه)).
ابن تيمية وتصرف الأولياء:
قول إبن تيمية في إحياء الموتى على يد الأولياء
جاء في كتاب النبوّات: (ص298): (وقد يكون إحياء الموتى على يد أتباع الأنبياء كما وقع لطائفة من هذه الأمّة) .
وقال في النبوّات: (ص218) وهو يستعرض معجزات الأنبياء: (فإنّه لا ريب أنّ الله خصّ الأنبياء بخصائص لا توجد لغيرهم، ولا ريب أنّ من آياتهم ما لا يقدر أن يأتي به غير الأنبياء.. كالناقة التي لصالح فإنّ تلك الآية لم تكن مثلها لغيره، وهو خروج ناقة من الأرض بخلاف إحياء الموتى فإنّه اشترك فيه كثير من الأنبياء والصالحين) .
وفي مجموع الفتاوى (3: 156): (ومن أصول أهل السنّة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء، ما يجري الله على أيديهم من خوارق العادة في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات كالمأثور من سائر الأمم) .
يقول في مجموع الفتاوى الجزء /4 ص 379 - 380 في _فصل التفضيل بين الملائكة والناس_ ما نصّه : (وقد قالوا: إن علماء الآدميين مع وجود المنافي والمضاد أحسن وأفضل . ثم هم في الحياة الدنيا وفي الآخرة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس ; وأما النفع المتعدي والنفع للخلق وتدبير العالم فقد قالوا هم تجري أرزاق العباد على أيديهم وينزلون بالعلوم والوحي ويحفظون ويمسكون وغير ذلك من أفعال الملائكة) .
والجواب : أن صالح البشر لهم مثل ذلك وأكثر منه ويكفيك من ذلك شفاعة الشافع المشفع في المذنبين وشفاعته في البشر كي يحاسبوا وشفاعته في أهل الجنة حتى يدخلوا الجنة . ثم بعد ذلك تقع شفاعة الملائكة وأين هم من قوله : { (وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء (107) } ؟ وأين هم عن الذين : { (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِك هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الحشر (9) } ؟ وأين هم ممن يدعون إلى الهدى ودين الحق ; ومن سن سنة حسنة ؟ وأين هم من قوله صلى الله عليه وسلم " { إن من أمتي من يشفع في أكثر من ربيعة ومضر } " ؟ وأين هم من الأقطاب والأوتاد والأغواث ; والأبدال والنجباء ؟ فهذا - هداك الله - وجه التفضيل بالأسباب المعلومة ; ذكرنا منه أنموذجا..) إهـ.
[الولي يقول للشيء كن فيكون:
وجاء تفسير ذلك في آثار أن من عباد الله يقول : من لو اقسم على الله أن يزيل جبلا أو الجبال عن أماكنها لأزالها وان لا يقيم القيامة لما أقامها . وهذا مبالغة ، ولا يقال إن ذلك بفضل بقوة خلقت فيه وهذا بدعوة يدعوها لأنهما في الحقيقة يؤولان إلى واحد هو مقصود القدرة ومطلوب القوة وما من أجله يفضل القوى على الضعيف . ثم هب أن هذا في الدنيا فكيف تصنعون في الآخرة وقد جاء في الأثر (يا عبدي أنا أقول للشيء كن فيكون أطعني أجعلك تقول للشيء كن فيكون يا عبدي أنا الحي الذي لا يموت أطعني أجعلك حيا لا تموت) وفى أثر (أن المؤمن تأتيه التحف من الله من الحي الذي لا يموت إلى الحي الذي لا يموت) فهذه غاية ليس وراءها مرمى كيف لا وهو بالله يسمع و به يبصر و به يبطش و به يمشى فلا يقوم لقوته قوة.
المرجع : مجموع الفتاوى 4/376- 377
[الله أعطى بعض الأولياء أعظم مما أعطى جبريل، وأن هذا عام في كل الأشياء]
وإذا تبين هذا أن العلم مقسوم من الله ليس كما زعم هذا (الذي أعلاه) بأنه لا يكون إلا بأيدي الملائكة على الإطلاق وهو قول بلا علم بل الذي يدل عليه القرآن أن الله تعالى اختص آدم بعلم لم يكن عند الملائكة وهو علم الأسماء الذي هو أشرف العلوم وحكم بفضله عليهم لمزيد العلم فأين العدول عن هذا الموضع إلى بنيات الطريق ومنها القدرة، وزعم بعضهم أن الملك أقوى وأقدر وذكر قصة جبرائيل بأنه شديد القوى وأنه حمل قرية قوم لوط على ريشة من جناحه.
فقد آتى الله بعض عباده أعظم من ذلك فأغرق جميع أهل الأرض بدعوة نوح وقال النبي صلى الله عليه وسلم  (أن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ورب أشعت أغبر مدفوع بالأبواب لو اقسم على الله لأبره) وهذا عام في كل الأشياء .
المرجع : مجموع الفتاوى 4/ 376]
رأي ابن قيم
يقول ابن القيم في (كتاب الروح) في المسألة الخامسة عشرة، ص: 102 – 103، دار الكتب العلمية، بيروت، 1975م:
(فصل: ومما ينبغي أن يعلم أن ما ذكرنا من شأن الروح يختلف بحسب حال الأرواح من القوة والضعف والكبر والصغر، فللروح العظيمة الكبيرة من ذلك ما ليس لمن هو دونها. وأنت ترى أحكام الأرواح في الدنيا كيف تتفاوت أعظم تفاوت بحسب تفارق الأرواح في كيفياتها وقواها وإبطائها وإسراعها والمعاونة لها، فللروح المطلقة من أسر البدن وعلائقه وعوائقه من التصرف والقوة والنفاذ والهمة وسرعة الصعود إلى الله والتعلق بالله ما ليس للروح المهينة المحبوسة في علائق البدن وعوائقه، فإذا كان هذا وهي محبوسة في بدنها فكيف إذا تجردت وفارقته واجتمعت فيها قواها وكانت في أصل شأنها روحا علية زكية كبيرة ذات همة عالية، فهذه لها بعد مفارقة البدن شأن آخر وفعل آخر. وقد تواترت الرؤيا في أصناف بني آدم على فعل الأرواح بعد موتها ما لا تقدر على مثله حال اتصالها بالبدن من هزيمة الجيوش الكثيرة بالواحد والاثنين والعدد القليل ونحو ذلك، وكم قد رئي النبي (صلى الله عليه وسلم) ومعه أبو بكر وعمر في النوم قد هزمت أرواحهم عساكر الكفر والظلم فإذا بجيوشهم مغلوبة مكسورة مع كثرة عَدَدهم وعُدَدهم وضعف المؤمنين وقلتهم) .
انتهى كلام ابن القيم.
-}  يقول شيخ الإسلام خاتمة المحققين الإمام شهاب الدين أحمد الحموي الحسيني في كتابه " نفحات القرب والاتصال بإثبات التصرف لأولياء الله تعالى بعد الانتقال " من ( ص 68 , 69 , 70 ) :
وما يتعلق بالتصرف فاعلم أن تصرف الأولياء حال حياتهم من جملة كراماتهم وهو في كل زمان لاشك فيه ولا ينكره إلا معاند ، قال التاج السبكي :
أن من أنواع الكرامة مقام التصريف وأما ما يتعلق بما بعد مماتهم فقد تقدم أن كراماتهم لا تنقطع بالموت , ثم إن تصرف الأولياء في حياتهم وبعد مماتهم إنما هو بإذن الله تعالى وإرادته , لا شريك له في ذلك خلقا وإيجادا , أكرمهم الله تعالى به وأجراه على أيديهم وبسببهم خرقا للعادة , تارة بإلهام , وتارة بمنام , وتارة بدعائهم , وتارة بفعلهم واختيارهم وتارة بغير اختيار ولا قصد ولا شعور منهم , بل قد حصل من الصبي غير المميز .
وتارة بالتوسل إلى الله تعالى بهم في حياتهم وبعد مماتهم مما هو ممكن في القدرة الإلهية .
ولا يقصد الناس بسؤالهم ذلك منهم قبل الموت وبعده نسبتهم إلى الخلق والإيجاد والاستقلال بالأفعال , فإن هذا لا يقصده مسلم ولا يخطر ببال أحد من العوام فضلا عن غيرهم , فصرف الكلام إليه ومنعه من باب التلبيس في الدين والتشويش على عوام المسلمين , فلا يظن بمسلم بل ولا بعاقل توهم ذلك فضلا عن اعتقاده .
وكيف يحكم بالكفر على من اعتقد ثبوت الكرامات لهم بعد مماتهم وعلى من اعتقد ثبوت التصرف لهم في حياتهم وبعد مماتهم حيث كان مرجع ذلك إلى قدرة الله تعالى خلقا وإيجادا.
كيف وكتب جمهور المسلمين طافحة به وأنه جائز وواقع لا مرية فيه بوجهها ألبتة حتى كاد يلحق بالضروريات بل بالبديهيات , وذلك لأن كرامات أولياء هذه الأمة في حياتهم وبعد مماتهم تصرفا وغيره من جملة معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدالة على صدق نبوته وعموم رسالته الباقية بعد موته التي لا ينقطع دوامها ولا تجددها بتجدد الكرامات في كل عصر من العصور إلى يوم القيامة { . أهـ
ويقول في ( ص 75 ) من نفس الكتاب :
}
قال العلامة ابن حجر :
وبمطالعة كتب الصوفية تحصّـل العلم بوقوعها ضرورة , وقد رأينا من كراماتهم أحياء وأمواتا ما يوجب ذلك فلا ينكرها إلا مخذول فاسد الاعتقاد في أولياء الله تعالى وخواص عباده نفعنا الله بهم{  أهـ
- يقول فضيلة الإمام محمد بخيت المطيعي في فتوى له (مطبوعة مع كتاب : نفحات القرب والاتصال بإثبات التصرف لأولياء الله تعالى بعد الانتقال):
 }
ومن ذلك تعلم أن ما ظهر من التصرفات على يد الأولياء لا يخالف صريح القرآن، لأن هذا التصرف الذي ينسب للأولياء هو نوع من الكرامات وهو فعل الله وخلقه ، يظهره الله إكراما لهم، تارة بإلهام وتارة بمنام وتارة بدعائهم وتارة بفعلهم واختيارهم وترة بغير اختيار ولا قصد ولا شعور منهم، بل قد يحصل من الصبي المميز، وتارة بالتوسل إلى الله تعالى بهم في حياتهم وبعد مماتهم مما هو محكي في القدرة الإلهية  {  اهـ.

(منقول من صفحة محمد السعيد ديدي)



كلنا بدر الحاج ... كلنا السر الجزولي
أطلقوا سراح المناضلين عن الحق و العرض والاهل ...
--------------------------
اللهم أرحم شهيدي الجريف شرق ... شهيدي الأرض و العرض ... شهيدي الدم و الرحم ...
في رحاب الله الشهيد أخي (محمد عبيد) والشهيدة أمي (منى النخلي) ... اللهم أجعلهم في ركاب الشهداء و الصديقين و الصالحين ...  رحمهما الله رحمة واسعة وأسكنهم فسيح جناته وسقاهما من كوثر المصطفي صل الله عليه وسلم شربة لا يظمآن بعدها أبدا ...
-------------------------
وأعود اذكر بقول جدي الراحل (مصطفي علي عوض الكريم) الشهير بـ (الغول) عليه رحمة الله ... (مهما قالوا مهما كتبوا .. فالجريف من رحم واحد) ...

محمد باعـــــــــــــــــــــو
09/11/2016

السبت، 5 نوفمبر 2016

كيف تدخل الغابة (64) .. (حقيقة الجحيم) .. السوق الأسود هو الأمن السوداني



بسم الله و الحمد لله

كيف تدخل الغابة (64)
الوطن الذي لا وجيع له
الحقيقة الجحيم ... السوق الأسود
(السوق الأسود = جهاز الأمن)
حماة الوطن هم .. السوق السوداء !!!


(نشكر أخونا المحلل الهادي هباني على هذا المقال التحليلي الرائع ... فقط سأضيف إليه حقيقة واحدة ... يحاول الكثيرون تجاوزها والأنحناء حولها .. ألا وهي حقيقة السوق الاسود .. ( السوق الأسود = الأمن ) حقيقة أكتشفتها منذ العام 2009 ..  لذا سأضع الحقيقة بين قوسين اما كل أيراد لكلمة (السوق الأسود) ولنرى كيف سيصبح الواقع الجحيمي الحقيقي رحمك الله أيها الشعب السوداني – الفضل -)
----------------------------------------
ارتفعت أسعار الدولار في السوق السوداء (الأمن السوداني) إلي ما يزيد عن 17 جنيه للدولار الواحد مباشرة بعد صدور قرار البنك المركزي بتعويم سعر صرف العملة المحلية (المسمي زورا و خجلا و استهتارا بعقول الناس سياسة الحافز). و بالتأكيد ارتفعت تبعا لذلك أسعار العملات الأجنبية الأخري. و سيتوالي هذا الإرتفاع في العملات الصعبة هذه المرة كالطوفان الجارف و لن تجد الحكومة سبيلا للسيطرة عليه. و من المتوقع ارتفاعه إلي ما يزيد عن 25 جنيه للدولار الواحد خلال الفترات القادمة (و يا خبر النهار ده بفلوس بكرة يصبح ببلاش) .

نقول ذلك لـ :
أولا:   لأن إنخفاض قيمة العملة المحلية و ظهور السوق السوداء (جهاز الامن و المخابرات)  هما في الحقيقة نتيجة للتدهور الإقتصادي و ليس سببا له. و كل تصريحات كبار و صغار المسئولين و من هب و دب من أزيالهم و أتباعهم بأن انعدام العملات الصعبة هو نتيجة للحصار الإقتصادي و العقوبات الأمريكية هو السبب في تدهور الحالة الإقتصادية إنما هي تصريحات لا تختلف في مضمونها و شكلها عن تصريحات المسئولين عن بعثة السودان في البطولة العربية للألعاب الأولمبية عام 2011م (بعد فضيحة إنفصال جنوب السودان) في رد علي سؤآل لبعض المشرفين عن فريق السلة عن النتائج المخزية التي حققها الفريق السوداني وقتها فأفادوا بأن
(السبب كلو في الإنفصال لأنو أخواننا الجنوبيين مشوا وخلو الفريق) ،،، كم هي محزنة كارثة طغمة الإنقاذ و محنتهم (بترول و لاعبين سلة مرة واحدة).
و ثانيا:   أن البنك المركزي لا يقوي علي السيطرة علي السوق السوداء
(جهاز الامن و المخابرات) و علي مسابقتها و التفوق عليها و لا يستطيع أن يضارع أو يواجه القوي الرئيسية المتحكمة فيها لأنه كما يعلم الجميع بأنه قد فقد مصداقيته و استقلاليته منذ يوم 30 يونيو 1989م الأسود و أصبح أداة طيعة مكرسة لخدمة القوي المتحكمة في السوق السوداء (جهاز الامن و المخابرات) نفسها.
و بالتالي فإن أي قرار أو مرسوم يصدره هو في النهاية يصب في مصلحة هذه القوي .. 
(جهاز الامن و المخابرات) ... التي تتحكم في إقتصاد البلد بكامل مؤسساته و تديره وفقا لمصالحها الخاصة و تستغله لنهب موارد البلاد و مراكمة رؤوس أموالها داخل السودان و خارجه في المقام الأول و الأخير.
ما نقوله بكل بساطة ليس طلاسم أو أضغاث أحلام فالمسألة واضحة وضوح الشمس. دعونا مثلا (و لتبسيط القضية للقارئ الكريم) أن نثير بعض الملاحظات و الاستنتاجات المرتبطة بتجارة العملة عن فضيحة الفريق طه التي فجرها استاذنا الكبير الصحفي المخضرم عبد الرحمن الأمين و التي كشف فيها بالوثائق المؤكدة النافية لكل جهالة تحويل الفريق طه مبلغ 40 مليون دولار أمريكي من حسابه بفرع بنك نوفا سكوتيا الكندي بدبي إلي حساب مطاحن سي آي دي (CID MILLS) التركية في بنك أكبكترس.
و من الواضح أنها عبارة عن صفقة شراء دقيق بقيمة 40 مليون دولار أمريكي تم سدادها علي دفعتين 10 مليون دولار بتاريخ
19 يناير 2015م و 30 مليون دولار بتاريخ 7 يونيو 2015م. و بما أن الدقيق و القمح و السكر و الذرة الصفراء و فول الصويا و غيرها من السلع النقدية لا يتم بيعها بالأجل أو التقسيط و يتم عادة سداد قيمتها فورا.
فسداد الفريق طه لقيمة الصفقة علي دفعتين 10 مليون دولار مقدما و 30 مليون دولار بعد ستة أشهر فهذا يعني أن علاقة الفريق مع هذه المطاحن علاقة طويلة اكتسب خلالها ثقتها الكاملة و أن هذه الصفقة لم تكن الصفقة الأولي له مع تلك المطاحن
.
و قبل أن نثير ملاحظاتنا نطلب من القارئ الكريم أن يضع أمامه آلة حاسبة قبل مطالعة ما يلي حتي لا تتضارب علينا الأصفار و حتي لا نوصف بالمبالغة.
بالمناسبة تحتفل سماء هوليود هذه الأيام بالفيلم السينمائي الرائع (المحاسب)) (The Accountant) بطولة بن آفلك و آنا كندريك) الذي يحكي عن نفس الإقتصاديات الخفية المشبوهة التي تتعامل مع مافيا الإقتصاد و مافيا غسيل و تهريب الأموال. (يبدو أن القارئ سيتعب معنا فهو مطالب ببعض مهارات استخدام الآلة الحاسبة و أيضا هواية و اتقان مشاهدة الأفلام الأمريكية) ،،، (و كله يهون في سبيل الوطن) ،،، برغم أنني تذكرت بأن الجماعة قد دمروا كل دور السينما في بلادنا و حولوها لمغالق لبيع الأسمنت و المسامير و المواسير) و أصبحت بالتالي بلادنا الواسعة خاوية إلا من دارين أو قل ثلاثة من دور السينما المتخصصة في تقديم الأفلام الهندية و المصرية و غيرها من الأفلام التي عفي عليها الزمن و أصبحت الغالبية العظمي من مبدعينا في مجال السينماء و المسرح مهاجرين في أرض الله الواسعة تلاحقهم و تطاردهم كغيرهم من المغتربين و المهاجرين سياسات البنك المركزي للحصول علي مدخراتهم من العملات الصعبة بثمن بخث عبر مناشير و مراسيم لا تساوي الحبر الذي كتبت به.

الملاحظة الأولي:  هي ملاحظة بسيطة في شكلها و لكنها خطيرة جدا في محتواها و تلفت الإنتباه لبعض الجوانب التي يعتبرها بطل الفيلم (سعادة الفريق طه
) جوانب لن ينتبه لها عامة الناس لأنهم جاهلون بأحدث ما توصلت له تقنيات و تكنلوجيا غسيل و تهريب الأموال. و تتلخص الملاحظة في :
أولا:    تمت التحويلات في يناير و يونيو 2015م أي قبل صدور منشور البنك المركزي رقم (9/2015) الذي يسمح فيه البنك المركزي بالاستيراد بدون تحويل القيمة
(Nil Value)
بمعني أنه عندما تمت صفقة الفريق طه (أو الأخطبوط الرئاسي كما يسميه الأستاذ عبد الرحمن الأمين) كان منشور بنك السودان رقم (20/2012) الصادر بتاريخ 23 أكتوبر 2012م ساري المفعول و هو يتعلق بحظر الاستيراد بدون تحويل القيمة فيما عدا لأغراض الإستعمال الشخصي وإسبيرات ماكينات المصانع المستعجلة، العربات للإستعمال الشخصي، و لأغراض الإستثمار. فكيف يتم السماح للأخطبوط الرئاسي بالإستيراد بدون تحويل القيمة أو بدون استخراج استمارة الإستيراد
(IM) من أحد البنوك؟ و كيف تسمح سلطات الجمارك بدخول بضاعة من الخارج بهذه الضخامة (و هي بالتأكيد ليست للأغراض الشخصية أو لغرض الإستثمار) دون أن يكون لها استمارة استيراد و دون أن يكون هنالك ما يثبت تحويل قيمتها من أحد البنوك السودانية سواء عن طريق تحويل أو اعتماد مستندي؟
و هذا ما يؤكد أن البنك المركزي باعتباره السلطة النقدية العليا في البلاد قد أصبح في الحقيقة بلا سلطة و أنه مجرد (مساعد حلة) أمام كبار مافيا الإنقاذ من كبار تجار العملة
(جهاز الامن و المخابرات) و مهربي العملة.
و ثانيا:   هل يا تري لهذه المافيا و القوي التي تتحكم في إقتصاد البلد و مؤسسات الدولة بما فيهم الأخطبوط الرئاسي دور في صدور منشور البنك المركزي رقم (9/2015) الذي سمح فيه بالاستيراد دون تحويل القيمة؟
و بما أن القرار يحمي مصالح مافيا تجارة العملة (جهاز الامن و المخابرات) و قد أدي بالفعل لاتساع نطاق السوق السوداء (جهاز الامن و المخابرات) و تهريب العملة جعل البلاد مرتعا خصبا لجرايم غسيل الأموال و تمويل الإرهاب.
فهو ما يؤكد أيضا أن أي قرار يتخذه البنك المركزي أو وزارة المالية أو غيرها من الدوائر الحكومية هو في الأساس لحماية مصالح كبار مافيا تجارة العملة
(جهاز الامن و المخابرات) بما في ذلك المنشور الجديد الخاص بتعويم العملة و المستفيد الأول و الأخير فيه كبار تجار العملة (جهاز الامن و المخابرات).
و لعل القارئ الكريم يلاحظ أن الصفقة تمت تقريبا خلال نفس الفترة التي بدأت فيها وزارة المالية بشن حملتها المشهودة الواسعة حول احتكار استيراد القمح و ضد أسامة داؤود تحديدا عام 2015م و التي كان هدفها الأول و الأخير هو إقناع الناس بجدوي إستيراد الدقيق بدلا من استيراد القمح و تصنيع الدقيق محليا
. فهل يا تري صفقة الدقيق التركي هذه كان لها علاقة بتلك الحملة الإعلامية المذكورة؟ نترك الإجابة لفطنة القارئ الكريم.
أما إذا افترضنا أن سعادة الفريق طه يمتلك في حسابه لحظة صدور قرار التعويم 40 مليون دولار مثلا إشتراها من مصادر عدة من بينهم المغتربين بدول الخليج علي مدار فترة من الزمن و بأسعار مختلفة. ولنفترض أيضا أن متوسط سعر تجميع العملة خلال تلك الفترة كان 14 جنيه. فمعني ذلك أنه بين يوم و ليلة من قرار بنك السودان بتعويم العملة قد تضاعفت أرباح الأخطبوط الرئاسي بحوالي 120 مليون جنيه (120 مليار بالقديم) علي أقل تقدير. و ذلك بطرح 14 جنيه متوسط السعر من سعر اليوم 17 جنيه و ضرب النتيجة في 40 مليون دولار (و بالتأكيد هو يملك أضعاف هذا المبلغ).
السؤآل المهم هو كيف يقوي بنك السودان علي مسابقة و مضارعة شخص يحقق بين ليلة و ضحاها أرباحا بمعدل 21.4% و هو نائم في شهر العسل؟
. (21.4% هي ناتج قسمة 3 جنيه فرق السعرين مقسومة علي متوسط السعر 14 جنيه و مضروبة في 100%).
الملاحظة الثانية:  هي كيف يقبل العقل أن يستخدم سعادة الفريق طه 40 مليون دولار من أحد حساباته بالخارج لشراء دقيق مرسل للسودان ليتم بيعه بالجنيه السوداني في السوق المحلي برغم التضخم و تدني قيمة العملة المحلية بشكل يومي؟ في كاراكتير ساخر متداول في مواقع التواصل الإجتماعي (سأل جاكوب زوما رئيس جنوب إفريقيا البشير كم يبلغ سعر الدولار عندكم؟ فأجابه الرئيس عمر البشير قبل السؤآل و لا بعده) ،،،
فإذا افترضنا أن متوسط السعر آنذاك 14 جنيه للدولار و أن نسبة أرباح الفريق طه في بيع الدقيق 20% فقط (رأفة بالشعب و حتي لا تنفجر الآلة الحاسبة في يد القارئ الكريم). فهذا يعني أن حصيلة صفقة الإستيراد هذه عبارة عن 616 مليون جنيه (616 مليار بالقديم) هي عبارة عن حاصل (40 مليون دولار × 14 + 10%) أي ما يعادل 44 مليون دولار بمعني أن الرجل حقق 4 مليون دولار في هذه الصفقة علي أسوأ الفروض.
الإجابة علي السؤآل بكل بساطة هي أن سعادة الفريق طه يثبت للجميع و بكل وضوح أنه من كبار مافيا تجار العملة (جهاز الامن و المخابرات) . فلو لم يكن كذلك و لم يكن واثقا من قدرته علي إرجاع ال 40 مليون دولار مع أرباحها إلي حسابه في دبي مرة أخري عبر وسائل متعددة من أهمها الشبكة التي يمتلكها الرجل لتجارة العملة و خاصة الناشطة في تجميع العملات الصعبة من المغتربين في دول الخليج لما أقدم للمغامرة بالدخول في هذه الصفقة.
إلا أن الحقيقة هي أن كل كبار التجار (جهاز الامن و المخابرات) و مافيا الإنقاذ يعملون بهذه الطريقة و أن سعادة الأخطبوط الرئاسي برغم موقعه كمدير لمكتب المشير فما يكتنزه من أصول نقدية و يحرك به تجارته الفاسدة لا يساوي جناح بعوضة أمام ما يكتنزه كبار المافيا (جهاز الامن و المخابرات) و من رجالات و نساء الرئيس.
فإذا كان الهدف أصلا من قرار تعويم العملة هو قرار لتجميع استقطاب تحويلات المغتربين (دعونا نصدق ذلك)، و إذا كانت إجمالي حصيلة تحويلات المغتربين في السابق تقدر بحوالي 3 مليار دولار و إنهارت إلي 400 مليون دولار حسبما جاء في (سكاي نيوز، فبراير 2016م) بسبب السياسات الإقتصادية و سياسات البنك المركزي الخاطئة. مما أدي لتدهور قيمة العملة الوطنية و اتساع نطاق السوق السوداء (جهاز الامن و المخابرات).
و بالتالي أصبح المغتربون يفضلون السوق السوداء
(جهاز الامن و المخابرات)  عن البنوك للفارق الكبير بين سعرها و السعر الرسمي و أصبحت مافيا تجارة العملاء (جهاز الامن و المخابرات)  تمتلك وسائل متطورة و وكلاء لها في دول الخليج يقدمون خدمات تحويل خمسة نجوم سريعة و مضمونة. فمعني ذلك أن هنالك 2.6 مليار دولار (3 مليار – 400 مليون) تمثل 87% من متوسط إجمالي تحويلات المغتربين تهيمن عليها مافيا تجارة العملة (جهاز الامن و المخابرات)  (2.6 مليار / 3 مليار × 100%). ففي ظل هذا الواقع هل يتوقع البنك المركزي حقيقة بأنه قادر علي سباق السوق السوداء (جهاز الامن و المخابرات)  و الحصول علي حصيلة تحويلات المغتربين؟
و حتي لو فتح فروعا له في دول الخليج أو عمل له شبكة من الوكلاء هنالك فلن يستطيع التفوق علي القطط السمان ،،، (و القط كلما تضرب به الأرض بأقصي ما تملك من قوة ما تعرفه مشي وين و سرعان ما يظهر لك مرة أخري) أما إذا استفردت به في مكان مغلق لا مخرج له منه و أوسعته ضربا سيقضي عليك لا محالة
.
كما قلنا في مستهل المقال أن تدهور العملة المحلية و اتساع نطاق السوق السوداء (جهاز الامن و المخابرات)  ليس سببا في التدهور الإقتصادي و إنما نتيجة له. و بالتالي فإن معالجة قضية سعر الصرف مقابل العملات الأجنبية تستدعي معالجة الأزمة الإقتصادية برمتها و لا تنفع معها المسرحيات التي تشرف عليها في المقام الأول المافيا المتحكمة (جهاز الامن و المخابرات)  في إقتصاد البلد و تكرسه و تكرس مؤسساته الرئيسية و علي رأسها وزارة المالية و البنك المركزي لخدمة مصالحها و نهب موارد البلد.
فالطريقة التي يدار بها إقتصاد البلاد تمثل أبرز نماذج ما يعرف بالإقتصاد السياسي للطبقة الحاكمة في دول العالم الثالث التي تدير الإقتصاد من منطلق مصالحها الطبقية الخاصة. و التي تسير في نفس مسيرة حالة زمبابوي الكارثية كمثال حي لا يختلف حوله العقلاء و التي بلغت فيها قيمة العملة المحلية ما يزيد عن 35 مليار للدولار الزمبابوي مقابل كل دولار أمريكي واحد عام 2009م. و تزايدت فيها معدلات التضخم لمستويات لم يعرفها العالم من قبل حتي وصل فيها سعر السنت الأمريكي لما يعادل 500 مليار دولار زمبابوي مما إضطرها لاتباع سياسة إحلال العملة أو ما يعرف ب (الدولرة) في عالمنا المعاصر و تعليق التعامل بالدولار المحلي و استبداله بالدولار الأمريكي أو الراند الجنوب إفريقي.
سبق و أن قلنا في رد سابق علي سؤآل للراكوبة حول أسباب إنخفاض قيمة العملة المحلية بأن السبيل الوحيد الصحيح لاستعادة عافية الإقتصاد و عافية العملة المحلية يبدأ أولا باسقاط هذا النظام الذي أصبح بالفعل عقبة أساسية أمام تطور و تقدم بلادنا اقتصاديا و اجتماعيا و ثقافيا و سياسيا.
و السبب يكمن في الأساس إلي ما أشارت إليه الفقرة السابقة بأن الطبقة الحاكمة لبلادنا خلال السنوات العجاف السابقة هي طبقة طفيلية كالكائنات الطفيلية التي تتغذي علي أجسام الكائنات الحية الأخري و تمتصها دون أن تفيدها أو تقدم لها شيئا و هي لا تعرف سبيلا للبقاء غير ذلك
.
و بالتالي فإن من يتوقع أن تقوم الحكومة بخطوات جادة لإصلاح الإقتصاد فهو واهم يعيش في كوكب آخر غير الذي نعيش فيه. فمعالجة الأزمة الإقتصادية قضية واضحة و سبلها معروفة تطرق لها العديد من خبرائنا الإقتصاديين و السياسيين في مقالات و كتب و أبحاث و لقاءات صحفية و هي مساهمات لا تحصي أو تعد و لكن صدق عمرو بن معد يكرب حين قال في الحكمة :
فمن ذا عاذري من ذي سفاهٍ
يرودُ بنفسه شـر المـرادِ
لقد أسمعت لو ناديت حيـا
ولكن لا حياة لمـن تنـادي
ولو نارٌ نفخت بها أضاءت
ولكن أنت تنفخ في الرمـادِ
أريد حياته ويريـد قتلـي
عذيرك من خليلك من مُراد
قلنا و لا نمل التكرار بأن أسباب تدهور قيمة العملة المحلية مقابل الدولار و غيره من العملات الأجنبية يرجع بالمقام الأول إلي زيادة الواردات عن الصادرات بشكل متواصل غير مسبوق خلال السنوات الماضية نتيجة لسياسات الدولة الإقتصادية الخاطئة التي أدت إلي تدهور القطاعات الإنتاجية (و علي رأسها القطاع الزراعي) و تطويقها بحزمة من الضرائب و الرسوم و الأتوات و الجبايات التي أضعفت قدراتها الإنتاجية و أفقدت منتجاتها النقدية القدرة علي المنافسة في الأسواق العالمية مما أدي إلي إنخفاض الصادرات انخفاضا مريعا وصل إلي ما نسبته 73% خلال الفترة 2008م/2015م و ذلك من 11.6 مليار دولار عام 2008م إلي 3.1 مليار دولار عام 2015م في حين زادت فاتورة الواردات من 9.3 مليار دولار إلي 9.5 مليار دولار خلال نفس الفترة. الأمر الذي أدي إلي تزايد العجز في الميزان التجاري (الصادرات – الواردات) بنسبة (373%) و ذلك من فائض بقيمة 2.3 مليار دولار عام 2008م إلي عجز بقيمة (6.3) مليار دولار عام 2015م أي بزيادة في العجز بلغت (8.7) مليار دولار (بنك السودان المركزي، العرض الإقتصادي و المالي، جدول (7)، أكتوبر– ديسمبر 2015م). و بالتالي فإن هذا العجز المريع المتواصل في الميزان التجاري (و الذي أصبح سمة من سماته) و بمبالغ ضخمة يدفع المستوردين باستمرار للإتجاه للسوق الأسود (جهاز الامن و المخابرات)  (التي أصبحت هي المتحكم الرئيسي في تحديد سعر العملة الأجنبية) لتغطية هذا العجز الأمر الذي يؤدي إلي تزايد الطلب علي العملة الأجنبية باستمرار و بالتالي إرتفاع أسعارها باستمرار. و سيظل هذا الوضع مستمر من أسوأ إلي أسوأ دون حلول شافية طالما ظلت الإنقاذ مستمرة في حكم بلادنا، ففاقد الشئ لا يعطيه.
و إذا استبعدنا حصيلة الصادرات المذكورة سابقا و البالغة 3.1 مليار دولار و تحويلات المغتربين البالغة 400 مليون دولار (سكاي نيوز، فبراير 2016م) من قيمة فاتورة الواردات البالغة 9.5 مليار دولار فهذا يعني أن السوق الأسود (جهاز الامن و المخابرات)  لوحده يمول 60% من قيمة فاتورة الإستيراد و هو ما يعكس حجم الاتساع الذي وصلت إليه هذه السوق (جهاز الامن و المخابرات)  و مدي تحكمها في العملة الأجنبية و علي رأسها الدولار الأمريكي.
نضيف إلي ذلك ما تطرق له صدقي كبلو في دراسة سابقة له بعنوان (خطأ سياسة النقد في السودان) أن كل معالجات وزارة المالية و بنك السودان المركزي لتدني سعر الصرف مقابل العملات الأجنبية يركز دائما علي زيادة العرض فقط و يهمل التأثير علي جانب الطلب باعتباره أفضل وسيلة لمعالجة تدني سعر الصرف و اقترح إيقاف استيراد العديد من السلع كالصابون و البسكويت و المكرونة، الشعيرية، و الألبان و الكثير من مشتقاتها، الزيوت النباتية، السكر، السيارات الفارهة، الفواكه، و مئات الواردات من السلع الأخري لتشجيع الإنتاج المحلي و تحفيز المنتجين المحليين لزيادة الإنتاج و بالتالي يقل الطلب علي الدولار و تنخفض تبعا لذلك فاتورة الإستيراد.
هذه الفجوة المتزايدة بين الصادرات و الواردات نتيجة لتدهور القطاعات الإنتاجية هو السبب الهيكلي الرئيسي في تدهور قيمة العملة المحلية. علما بأن هنالك أسبابا أخري تتداخل و تتقاطع مع الأسباب المكورة أهمها:
/1    تحكم جهات حكومية نافذة في تجارة العملة علي رأسها (جهاز الامن و المخابرات) الذي (بجانب كونه جهازا قمعيا) فقد تحول أيضا لمؤسسة رأسمالية طفيلية تتحكم تحكما كاملا في تجارة العملة نسبة لتحكمها في المقام الأول بتجارة الأسلحة و الذخيرة و الآليات و المعدات العسكرية و مواد و أجهزة القمع التي تتم بالطبع عبر قنواتها غير المشروعة و الدليل علي ذلك عدم وجود أية بيانات تتعلق باستيراد و تصدير السلاح و الذخيرة و أجهزة القمع في كل التقارير و الدوريات الصادرة عن بنك السودان المركزي برغم أن 25% أي ما يعادل 3 مليار دولار تقريبا من موازنة 2016م المعتمدة مخصص للأمن و الدفاع.
   /2 سياسات البنك المركزي الخاطئة التي فاقمت من تدهور قيمة العملة المحلية. و بجانب القرارات الأخيرة فالمنشور رقم (9/2015) مثلا الصادر عن بنك السودان المركزي بتاريخ 3 نوفمبر 2015م لكافة المصارف و الذي سمح فيه بالإستيراد بدون تحويل القيمة لا يعتبر فقط تقنينا للسوق الأسود و توسيعا لنطاقها، بل أيضا يعتبر منفذا كبيرا لتهريب العملة حيث أصبح بمقدور تجار العملة تسليم العملة الأجنبية للمستوردين من حساباتهم بالخارج و التي يتم تغذيتها من خلال عدة مصادر من ضمنها تحويلات المغتربين، المستثمرين الأجانب، البعثات الدبلوماسية، الأجانب العاملين بالسودان، تجار الأسلحة و المرتشين و ناهبي المال العام (جهاز الامن و المخابرات) و غيرها من الأنشطة غير المشروعة.
و الدليل علي ذلك إنخفاض تحويلات المغتربين من 3 مليار دولار إلي 400 مليون دولار كما هو مذكور سابقا أي إنخفاضا بنسبة 99.9% (100%). أي أن العملة المهربة لصالح تجار العملة
(جهاز الامن و المخابرات) من تحويلات المغتربين كما هو مذكور سابقا قد بلغت 2.6 مليار دولار.
القضية الأخري التي نري من المهم تسليط الضوء عليها هي أن قرار تعويم العملة و إلغاء 10% من حصيلة الصادرات لصالح إستيراد الأدوية بجانب كونه يضاعف من معدلات التضخم و إرتفاع أسعار السلع الرئيسية و علي رأسها الأدوية. فإنها لن تشجع و تزيد الصادرات كما يتوهم بنك السودان. بل علي العكس تماما ستقلل الصادرات و تضر بها و ذلك لأن تكلفة الإنتاج ستتضاعف و بالتالي سينخفض سعر الصرف الحقيقي لمستويات غير مسبوقة. فمن المعروف أن هنالك نوعان في علم الإقتصاد لسعر الصرف:
الأول:   هو سعر الصرف الإسمي (Nominal exchange rate) و هو الذي يقيس عملة البلد التي يمكن تبادلها بقيمة عملة بلد آخر. و يتحدد تبعاً لآليات العرض و الطلب في سوق الصرف في لحظة زمنية معينة. و لذلك يمكن أن يتغير هبوطا و ارتفاعا تبعا لتغير الطلب والعرض. وينقسم بدوره إلى سعر الصرف الرسمي (السعر المعمول به فيما يخص التبادلات التجارية الرسمية) وسعر الصرف الموازي (السعر المعمول به في الأسواق الموازية غير الرسمية أو السوق السوداء (جهاز الامن و المخابرات))
الثاني:  (و هو الأهم) يعرف بسعر الصرف الحقيقي (Real exchange rate) و هو عبارة عن عدد الوحدات من السلع الأجنبية اللازمة لشراء وحدة واحدة من السلع المحلية، وبالتالي يقيس قدرة المنتجات المحلية للمنافسة في الأسواق الخارجية. صحيح أن هنالك بعض الدول التي تتعمد تخفيض سعر عملتها لترفع قوة منافسة منتجاتها في الأسواق الخارجية.
فالصين علي سبيل المثال تتعمد دائما تخفيض سعر عملتها عن سعرها الحقيقي مقابل الدولار الأمريكي و غيره من العملات الصعبة كاليورو و الجنيه الإسترليني و المارك الألماني و ذلك لتزيد من عدد الوحدات من منتجاتها المحلية التي يمكن أن تحصل عليها الوحدة الواحدة من السلع الأجنبية. و لذلك فإن المنتجات الصينية تنافس المنتجات الأمريكية و الأوروبية داخل أسواق تلك البلدان نفسها و تكون أسعارها منخفضة جدا مقابل نظيراتها من السلع المماثلة في تلك الأسواق. و في سبيل ذلك لا تمانع الصين في قبول سداد قيمة منتجاتها المصدرة لأمريكا مثلا بسندات الخزانة الأمريكية للدرجة التي أصبحت فيها الصين أكبر الدول الدائنة للحكومة الأمريكية. و بالتالي فإن سياسة تخفيض سعر العملة المحلية بهدف تشيجيع الصادرات يمكن أن ينجح فقط مع البلدان ذات الإقتصاديات القوية و التي تتمتع بتبادل تجاري واسع النطاق مع دول العالم كالصين التي تسيطر علي 17% من حجم التجارة العالمية
.
أما في حالة بلادنا فإن أي تخفيض في قيمة الجنيه يزيد من تكلفة الإنتاج لأن تكلفة الأموال لدي البنوك ستتضاعف مما يزيد هوامش الأرباح لتمويل الصادر لمستويات غير مسبوقة لأن البنوك بعد قرار التعويم أصبحت تشتري العملات الصعبة بما يزيد عن 15 جنيه بدلا من 5 إلي 6 جنيه. هذا بالطبع إضافة إلي الضرائب الباهظة و الرسوم و الأتوات و الجباية المفروضة علي المنتجين و المصدرين سلفا. و لن يقف الأمر عند هذا الحد فالزيادات الجديدة علي المحروقات ستنعكس علي زيادة تكلفة كافة القطاعات الإنتاجية خاصة الزراعة و الصناعة و سيحدث ما يعرف في علم الإقتصاد بتضخم التكلفة (Cost inflation) و هو التضخم الناتج عن إرتفاع سعر سلعة استراتيجية رئيسية واحدة يرتبط بها إنتاج كل السلع الأخري كالبترول مما يؤدي لإرتفاع أسعارها تبعا لذلك.
فقرارات المركزي الأخيرة إذن هي مجرد مسرحية من مسرحيات العبث التي عودنا النظام عليها و هي بالتأكيد ليست في الإقتصاد من شئ. و هي كما قلنا و لا نمل التكرار بأنها تخدم في الأساس المافيا الحاكمة للبلد و(جهاز الامن و المخابرات)  و المتحكمة في موارده و خيراته و الضحية الوحيدة هي عامة الشعب و لذلك فإن التدهور الإقتصادي سيستمر و معدلات التضخم ستتضاعف و ارتفاع العملات الأجنبية مقابل الجنيه السوداني ستتواصل باستمرار ما لم تخفض الدولة إنفاقها علي الأمن و السلاح و الصرف البذخي علي جهاز الدولة المترهل و توقف الحرب و تخفض فاتورة الإستيراد و توجه كل الموارد لدعم و تطوير القطاعات الإنتاجية و قطاعات التعليم و الصحة و الموارد البشرية. و لكن بالطبع و من المعروف للكل أنه من سابقة المستحيلات أن تقوم الحكومة بذلك لأن كل تلك الحلول التي لا يختلف حولها العقلاء و الوطنيين تتعارض مع مصالح الطبقة الطفيلية الحاكمة. و لذلك فإن السبيل الوحيد للخروج من الأزمة الإقتصادية الراهنة تحقيق الإستقرار في سعر الصرف يبدأ أولا باسقاط هذا النظام الذي يدير الإقتصاد وفقا لمصالح الطبقة الطفيلية الحاكمة.

(الهادي هباني)

----------------------

كلنا المناضل (بدر الحاج) كلنا المناضل (السر الجزولي) ..
أطلقوا سراح المناضلين من أجل الحق ....

اللهم أرحم شهيدي الجريف شرق ... شهيدي الأرض و العرض ... شهيدي الدم و الرحم ...
في رحاب الله الشهيد أخي (محمد عبيد) والشهيدة أمي (منى النخلي) ... اللهم أجعلهم في ركاب الشهداء و الصديقين و الصالحين ...  رحمهما الله رحمة واسعة وأسكنهم فسيح جناته وسقاهما من كوثر المصطفي صل الله عليه وسلم شربة لا يظمآن بعدها أبدا ...

وأعود اذكر بقول جدي الراحل (مصطفي علي عوض الكريم) الشهير بـ (الغول) عليه رحمة الله ... (مهما قالوا مهما كتبوا .. فالجريف من رحم واحد) ...

محمد باعـــــــــــــــــــــو
05/11/2016