الأربعاء، 30 ديسمبر 2015

مقال الواحد الصحيح .... منقول من صفحة د. مصطفي محمود



بسم الله و الحمد لله

مقال للراحل د. مصطفى محمود

الواحـــــد الصـــحيح




كل تغيير يعود بصورنا المتعددة إلى الواحد الصحيح .. هذه الظواهر المتباينة المختلفة تعود في النهاية إلى وحدة بسيطة ..
وكما قلنا قبلا أن الكائن الحي مئات الأنواع من النسجة جلد وأظافر وشعر وأسنان وعضلات ومخ وكبد ودم وألياف وكلها تحورات خلية واحدة بسيطة هي خلية جنين ..
ومن الأرض وفي حقل واحد يعطي الطين الواحد ألف صنف وصنف من الفاكهة والخضروات والزهور والطحالب والباكتيريا ..
من الواحد يخرج الكل ..
والى الواحد يعود الكل ..
وكما تبدأ بعود الكبريت إلى جوار عود كبريت إلى جوار عود كبريت فتصنع مثلثا ومربعا ومستطيلا ومسدسا ثم هرما ثم مكعبا ثم أشكالا مختلفة من المعمار .. كذلك الوجود المعقد حولك يرتد إلى وحدة بسيطة هي الذرة دخلت في تواليف وتراكيب لا آخر لها وأنتجت ما ترى من ظواهر مختلفة متباينة تتناقض وتتحارب وتأكل بعضها وتقتل بعضها وهي في النهاية من أب واحد .
واحد صحيح ...
الحياة والممات .. والسوائل والجمادات والغازات .. والإشعاعات .. مصنفات شيء واحد .. الفرق بينها فرق نسب وعلاقات وكيفيات .
ذرتان من الأكسجين تعطيانك ذلك الغاز اللطيف الذي تتنفسه .
وثلاث ذرات من الأكسجين تعطيك سما زعافا قاتلا اسمه الأوزون ؟
بل إن نفس الذرتين إذا بتشكيل وكيفية مختلفة تعطيان مادة مختلفة ؟
الاختلاف في الماهية يرتد في النهاية إلى خلاف في التشكيل والكيف والكم .. في النسب والأرقام والعلاقات .
الفرق بين السكر والنشاء هو فرق في ترتيب وعدد الذرات الداخلة في تركيب الاثنين ولكن الاثنين من مادة عضوية واحدة هي الكربوايدرات .
والفرق بين سم الثعبان وبين طبق شهي من البيض المقلي فرق شكلي في معمار الذرات .. فالاثنان كلاهما مادة واحدة هي البروتين ..
والكون شيء واحد يعاد صبه وسكبه في قوالب وأشكال وتراكيب لا حصر لها ..
والأصل واحد صحيح ..
الفرق بين شكسبير والبواب الذي يقف على باب بيتك والكلب الذي يهز ذيله أمامك .. والقملة التي تمرح في رأسه.. هو الفرق في النسق و الترتيب والكيفية التي تصتف فيه الأحماض الآمينية في الجينات الوراثية .
انه فرق في مادة واحدة اسمها د . ن . ا (حامض ديزوكسي ريبونيوكلييك ) تتألف من واحد وعشرين حمضا حمضاً آمينياً يمكن أن تصطف بطريقة أو بأخرى كما تصطف الحروف فتؤدي إلى مخلوقات مختلفة كما تؤدي الحروف إلى كلمات مختلفة وعبارات متباينة ..
انه فرق شكلي كيفي .. وفرق في النسق .. وفي الصياغة لمادة واحدة .. إننا أمام خالق مبدع إبدع تصميمات (أرواحا) صيغت على وفاتها مواد أولية واحدة إلى ما لا نهاية من الفرديات .
وكما أن 26 حرفا أبجديا أمكن أن يؤلف منها ملء مكتبات الأرض من اللغات والعلوم والمعارف والفنونو الحضارات بمجرد تباديل وتوافيق بين الحروف .. كذلك صانع الحياة أمكنه بالتباديل والتوافيق بين الأحماض والتوليف بينها في تصميات مبتكرة أن يصنع من المادة الواحدة التي اسمها د . ن .ا كل ما يدب على الأرض من فضائل وأنواع وأجناس وأفراد من شكسبير إلى الميكروب بكافة صنوف الحيوان والنبات التي تأكل بعضها وهى في إلا صل واحد ..
وعلماء الطبيعة يقولون لنا أن الفرق بين ما نرى من ألوان حمراء وخضراء وصفراء وزرقاء هو فرق في أطوال موجات الضوء .. مجرد فرق رقمي ...
والفرق بين أشعة الضوء وأشعة إكس وأشعة جاما القاتلة وأمواج اللاسلكي التي نسمع بها الراديو هو أيضا فرق في الأطوال الموجية .
أشعة الضوء تقدر أطوالها بالميكرون وأجزاء الميكرون .
وأمواج الرادار بالملليمتر ..
... أما الظاهرة نفسها فهي ظاهرة واحدة اسمها الأمواج الكهرطيسية .
والنتيجة مريحة جدا وسارة , ومثيرة للتفكير والدهشة بقدر ما هي سارة .. فالفرق بيني وبينك وبين الحمار وبين قالب الطوب هو في النهاية فرق حسابي في الكم وفرق في نوعية الترتيب .. فرق يمكن أن يعبر عنه بالأرقام ما دامت مادة الوجود (حيا ميتا ) يمكن أن ترتد ببساطة شديدة إلى أصل واحد ولنسمه س .. فيكون الحمار هو الجذر التربيعي ل 343 س وتكون سيادتك لوغارتم س ص 91 وأكون أن س ص ع 3.. حيث تكون ص, ع رموز للعوامل الكيفية المجهولة التي تقابل عندنا الروح والعقل والضمير .
العالم كله تشكيل من مادة واحدة .
وما نرى حولنا أنماط فن تشكيلي .. وحاصل ضرب وطرح وجمع وقسمة شيء واحد ..
وبقدر ما يمكن أن ينقسم الواحد .. وبقدر ما يمكن أن تنضاف الأجزاء لتؤلف فيها فيما بينها مجاميع وكسور وجذور ولوغارتمات .. وبقدر ما يمكن إن يدلك علم حساب المثلثات وحساب التفاضل والتكامل على الاحتمالات اللانهاية التي يمكن أن تنتج عن هذه العمليات الرياضية تكون صورة الكون الذي تراه أمامك وتكون حقيقته .
مجرد كميات وكيفيات ومقادير وحدود رياضية وأطوال يقسمها الزمان والمكان إلى الصورة التي تراها بها .
وأنت تضحك الآن وتتساءل .. كيف يمكن اختزال العالم بكل مباهجه وألوانه النابضة إلى مجرد شفرة رياضية .. ومع ذلك أنت تسمع كل يوم إلى الموسيقى وتطرب وتهتز وتنتشي , مع أن هذه الموسيقى ليست في الحقيقة إلا سباقا من الأرقام .. مجرد تتابع من الذبذبات يتفاوت ارتفاعا وانخفاضا وشدة وضعف وهي بحساب الموجات الصوتية التي تطرق طبلة الأذن مجرد اهتزازات تتفاوت في المقدار .. في النهاية أرقام .. وكيفيات .. المعمار الموسيقي هو معمار هندسي رياضي في المقام الأول .
انه رسم في الفراغ ..
كل مقطوعة موسيقية معدلة رياضية لها قوانينها .
ومع ذلك فأنت تنفعل بالغروب كصورة جمالية مع انه معادلة رياضية من الأطوال الموجية .. وبالمثل يمكن أن يكون المار هو واقع الأمر ((الجذر التربيعي ل343 س )) مع انك ترى شيئا مختلفا .. مخلوقا له رأس وأذنان طويلتان وذيل , فهكذا تترجم لك حواسك بلغتها الخاصة ما ترى من معادلات رياضية وأرقام مجردة ..
وجهاز الإرسال التلفزيوني حينما يرسل صورتك عبر الأثير إنما يرسلها على هيئة أمواج يلتقطها الاريال لينقلها إلى جهاز الاستقبال على هيئة نبض كهربائي يتفاوت شدة وضعفا .. مقادير من الطاقة هي في نهاية الأمر المعادلة الرياضية لصورتك .. وما يفعله جهاز الاستقبال (وهو نفس ما تفعله الحواس حينما ترى منظر
الغروب ) هو أن يترجم هذه المقادير من النبضات الكهربائية . يترجم هذه المعادلة الرياضية إلى مقابلها من الظل والنور على شاشة جهاز الاستقبال فتعود صورتك إلى الظهور بالشكل الذي عرفتها به (ولكنها قطعا كان لها شكل آخر وهي على الأثير .. كانت حينئذ أمواجا .. كانت معادلة مجردة من الحدود الرياضية والمقادير والكيفيات . )
فالعالم إذن له صورتان (وفي الحقيقة صور عديدة بقدر ما تتفاوت وسائل الحس ).
صورة هي التي نراه بها
وصورة تقول بها الكميا التحليلية والطبيعية والتشريح وهي أرقام ومقادير وكيفيات وعلاقات ترشدنا
إليها أدواتنا ومقاييسنا .
وصورة مجردة هي النسق الأصلي وهي أشبه برسم فراغي أو مثال هو الذي خلقه الخالق ابتداء وهي الروح ..
لكل مخلوق روح .. هي المثال والنسق الأصلي الذي صيغ عليه .
وهو تقريب وتبسيط فيه كل أخطاء التبسيط والتقريب .. لأنه يحاول أن يتلمس ويشخص ويجسد ما لا يمكن تجسيده بالكلام .. فحينما يصل الفكر إلى منطقة الروح فانه يصاب دائما بالصم والخرس فلا يجد اللغة التي يستطيع أن يشرح بها إحساسه .
إن وحدة النسيج بين الموجودات حقيقة مطلقة .
ولكنها وحدة لا تنفي تفرد هذه المخلوقات وانفراد كل منها بشخصيته و وخصائصه .
بل إن هذا التفرد يبدو في الإنسان تفردا مطلقا ليس فقط في النمط السلوكي والشخصية والنفس وإنما حتى في التشكيل البنائي المادي .. فنرى كل إنسان قد انفرد ببصمة أصبع خاصة به لا يتشبه اثنان في هذه البصمة حتى ولو كانا توائم .
ومنذ بدء الخليقة وكل واحد من ملايين الملايين من الآدميين له بصماته الخاصة به .
هذا الانفراد المطلق في الجسم والنفس لكل إنسان ولكل مخلوق هو حقيقة أخرى تنضاف إلى الوحدة المطلقة التي صدر عنها الكل .. د
بل إن النسيج الحي ليتفرد لدرجة انه يرفض أي رقعة من جسم آخر .. فيرفض الجسم قلبا أو كبدا أو كلبة تستعار له من جسم آخر لإنقاذه .. ويموت مفضلا أن يكون هو هو .. على أن يعيش برقعة من جسد آخر ..
إن تفردنا حقيقة مطلقة .
كما أن صدورنا من أصل مشترك حقيقة ثانية
إننا نخرج من الواحد ..
ولكننا نعود فيتوحد كل منا ليصبح ((نسيج وحده )) لا يتكرر ولا يشبهه شبيه .
بل إن قصة الحياة هي في ملخصها خروج هذه الشخصية الفردانية المتمايزة من عماء مادة متجانسة كالطين و الماء .
واكتشفنا للواحد الصحيح خلف تصانيف الحياة يجب إلا يحجب عنا هذه الفردانية والتفرد ولا أن يخفي عنا أصالتنا كأفراد .
وهي فردانية ذات معنى .. فكل منا بعد إن خرج من الواحد الصحيح قد عاد بدوره محاولاً أن يصبح ((واحداً صحيحاً )) في ذاته له أصالته الخاصة المتميزة .
وهذه الصورة الجسدية المتفردة هي التعبير الخارجي لتفرد الروح الداخلية وأصالتها .
إن تفرد القالب هو التعبير الخارجي لتفرد المحتوى
تفرد الشكل يدل على تفرد المضمون .
مقال : الواحد الصحيح
كتاب : لغز الموت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق